عبد اللطيف الهاجري… القائد الذي رحل وبقيت روحه تُنير الطريق

محمد تهامي
كيف يمكن لصورة أن تختزل عمرًا كاملًا؟ كيف يمكن لإطار واحد أن يحمل بين زواياه قصة إنسان، ذاكرة زمن، ودفء علاقة لم تُفصم عراها حتى بعد الغياب؟ كانت الهدية التي وصلت إلى المكتب في يومٍ لم يُرتّب له، أشبه برسالة من الماضي، وكأنها يد تمتد من غياهب الذكرى لتعيد تشكيل اللحظة، فتجعلها أعمق، وأصدق، وأكثر اشتعالًا بالمشاعر. لم تكن مجرد صورة، بل نافذة إلى رجل كان أكثر من مجرد اسم في سجل الحياة، بل كان نغمة في لحن الخير، نبضًا استثنائيًا في جسد العطاء، وكان اسمه عبد اللطيف الهاجري.
في مشهد لا يغادر الذاكرة، كان المندوب يتهيأ لنقل صناديق المراسلات، يحاول أن يحكم قبضته على الأمانة التي يحملها، حين لمح رجلاً حاسر الرأس يقترب منه بهدوء. دون مقدمات، دون كلمات زائدة، بدأ الرجل بمساعدته. حمل صندوقًا، ثم آخر، وكأن الأمر لا يستدعي ترددًا أو تفكيرًا. اعترض المندوب، حاول أن يوقفه قائلًا: “هذا عملي، لا عليك”، لكن اليد التي امتدت للمساعدة لم تكن يدًا تتوقف عند الاعتبارات الوظيفية، بل كانت يدًا تعرف أن القيادة ليست امتيازًا، بل التزام، ليست سلطة، بل مشاركة. وعندما انتهت المهمة، استدار الرجل وابتسم، ليكتشف المندوب أنه لم يكن إلا عبد اللطيف الهاجري، بوعبدالرحمن.
كان الهاجري نموذجًا للقائد الذي لا يرى فرقًا بينه وبين من يعمل معه. كان يعرف أسماء الجميع، يسأل عن تفاصيل حياتهم، يتذكر أعيادهم، أحزانهم، أفراحهم. حين كان يجلس مع العامل عبد الغفار، لم يكن يجلس كمدير مع موظف، بل كأخ مع أخ. كان يسأله عن عائلته في الهند، عن ابنته الصغيرة إسراء، عن والدته التي كانت تنتظر صوته كل مساء. ثم، في لحظة من اللحظات التي لا يصنعها إلا الكبار، كان يقول له بابتسامته المعتادة: “بو إسراء، هاتِ لنا بعض الزيتون، وزيت الزيتون، وخبزًا حارًا، ولا تنسَ رشة الملح.” ثم يجلس مع الفريق، يتناولون الطعام، ويتبادلون الأحاديث، وكأنهم على مائدة واحدة منذ الأزل.
هذا النوع من القيادة، كما وصفها العقاد، لا يحتاج إلى لقب، بل يحتاج إلى روح تؤمن بأن التواضع هو أعظم أشكال القوة، وأن العظمة الحقيقية تكمن في القدرة على أن تكون قريبًا من القلوب لا متربعًا على العروش. وهكذا كان الهاجري، رجلًا استطاع أن يكون عظيمًا دون أن يصنع بينه وبين الآخرين حاجزًا واحدًا.
لكن المشهد الأكثر تأثيرًا كان ذاك الذي تكرر مرارًا في مكتبه. حين يدخل عليه أخوه صلاح ليبحثا معًا في تحديات العمل، لكنه بدلًا من الخوض مباشرة في التفاصيل، كان الهاجري يرفع رأسه ويسأل فجأة: “متى آخر مرة كلمت الوالدة؟” كان السؤال يأتي كضوء مباغت، يبدد زحام المسؤوليات، يعيد ترتيب الأولويات، يذكّر بأن أعظم المشروعات في الحياة هي تلك التي نبنيها في قلوب أمهاتنا. وعندما يجيبه صلاح، كان يطلب منه الاتصال فورًا. ثم يأخذ الهاتف، يتحدث إلى والدته قائلًا: “يا مه، هذا صلاح أخوي، لا تنشغلي عليه، اطمئني، وين إيدك يا مه، أقبّلها، دعواتك لنا، ولا تنشغلي عن أخوي”.
في لحظة واحدة، كان هذا الرجل يُعيد تعريف القيادة، كان يجعل من العمل امتدادًا للإنسان، وليس نقيضًا له. وهذا ما تحدث عنه المسيري، حين قال:” إن القائد الحقيقي هو الذي يجعل من كل فردٍ في منظومته شريكًا في الهدف، وليس ترسًا في آلة”
لم يكن الهاجري شخصًا يعيش في برجه العاجي، بل كان الرجل الذي يتواجد حيث يكون الفعل، حيث تكون الحاجة، حيث يكون الوجود ضرورة. كان يدرك أن العظمة لا تُقاس بعدد الأوامر التي تصدر، بل بعدد القلوب التي تُفتح، بعدد الأيادي التي تمتد لتُعين، بعدد الأرواح التي تجد فيك ملاذًا وإن كنت بلا سلطة. وهذا ما كان يعنيه المهاتير محمد حين قال: “القائد العظيم هو من يجعل شعبه أقوى، لا من يجعلهم أكثر تبعية له.”
في يوم التاسع من مارس 2012، توقف نبض هذا الرجل، لكن شيئًا منه لم يتوقف أبدًا. بقيت قصصه تتناقل بين من عرفوه، بقيت روحه ترفرف في كل زاوية ساعد فيها، في كل بسمة زرعها، في كل موقف صنع فيه فرقًا دون أن يسعى إلى أن يُذكر. وهذا هو جوهر القيادة الحقيقية: أن ترحل، لكن يظل أثرك ممتدًا، كضوءٍ لا ينطفئ، كحكاية لا تموت.
وعندما وصلت الصورة إلى المكتب، كانت أكثر من مجرد صورة، كانت شهادة على زمنٍ لم يُمحَ، كانت رسالة من رجل لم يحتج يومًا إلى أن يُخلَّد، لأن الخلود كان جزءًا من طريقته في الحياة.