حين يترجل فارس العطاء.. ويبكيه طلاب العلم

محمد تهامي
بدموع تنزف وقلوب تقشعر، يودع العالم الاكاديمي والتنموي قامةً سامقةً، ورجلًا نذر عمره لخدمة العلم والطلاب، فارسًا ترجل عن صهوة البذل والعطاء، مخلفًا وراءه إرثًا خالدًا من الإخلاص والتفاني. انه الدكتور محمد عبد المعروف، الرجل الذي لم يعرف في حياته إلا البذل دون مقابل، والسعي بلا كلل، والعطاء بلا منٍّ ولا انقطاع. كيف لا تبكيه القلوب، وهو الذي أضاء بنور علمه دروب ألاف الطلاب، وأعانهم على المضي قدمًا نحو مستقبلهم، فكان لهم أبًا وسندًا، لا يهدأ له بال حتى يرى الابتسامة على وجوههم، ويطمئن إلى أن أقدامهم قد ثبتت على أرض المعرفة.
إنه ابن السودان الأصيل، الرجل الذي جسّد أخلاق هذا الشعب الكريم في أنبل صورها، سماحةً، وطيبةً، وصدقًا، وتواضعًا يأسر القلوب. كان خير سفيرٍ لوطنه، أينما حلّ نشر حوله عبير المروءة والشهامة، وكأن روحه نُسجت من نهر النيل صفاءً، ومن أرض السودان نقاءً، ومن أخلاق أهلها رحمةً ومحبة. لم يكن مجرد إداري يجلس خلف مكتبه ليصدر القرارات، بل كان ميدانًا متحركًا للعطاء، لا يعرف الراحة إلا في راحة طلابه، ولا يهدأ إلا وقد اطمأن إلى أن حاجاتهم قد لُبِّيت، سواء في السكن أو المعاش أو التعليم.
شغل منصب مساعد المدير للموارد، ثم أصبح عميدًا لشؤون الطلاب بجامعة إفريقيا العالمية، لكنه كان أكثر من مجرد مسؤول، كان روحًا تسكن الجامعة، ويدًا حانية تمتد لكل محتاج، وقلبًا مفتوحًا لكل طالب جاء حالمًا بغدٍ أفضل. لا يُذكر اسمه إلا ويُذكر معه الخير، فقد كان لا يرد سائلًا، ولا يخيب طالبًا، وإذا طلبت منه عونًا للطلاب، كان جوابه الدائم بكلمته التي تحمل كل النقاء: “حاضر”.
سعى بكل جهده، وبكل ما أوتي من حكمة وعلاقات، إلى إرساء شراكات مع المنظمات الخيرية، دعمًا للجامعة ومشروعاتها المستدامة، حتى تظل صرحًا شامخًا يحتضن طلاب آسيا وأفريقيا، ويوفر لهم بيئةً تعليميةً مستقرةً تليق بحلمهم. كان يرى في العلم رسالةً مقدسة، لا تكتمل إلا إذا وُفرت لكل طالبٍ ظروفٌ تُمكّنه من التحصيل دون قلقٍ أو عناء، فبذل روحه قبل جهده، واستودع الجامعة قلبه، وسار في دروب الخير حتى آخر رمقٍ من حياته.
لكن المرض لم يمهله طويلًا، فدخل في معركةٍ أخرى، هذه المرة ليست مع ظروف الطلاب، بل مع الألم، مع الجسد الذي أنهكه العطاء، ومع الأيام التي ضاقت عليه بين المستشفيات، متنقلًا بين الأردن والإمارات بحثًا عن علاجٍ يخفف وطأة المعاناة، لكنه كان رغم الوجع صابرًا، ثابتًا، كما كان دائمًا، حتى أسلم الروح فجر يومٍ مبارك، – الثلاثاء 25 فبراير 2025- إلى رحمة الله، إلى حيث الراحة الأبدية، إلى حيث الجزاء الأوفى لمن أفنى حياته في خدمة الآخرين.
ونحن نودعه اليوم، لا نملك إلا أن ندعو الله أن يجعله في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجعل ما قدمه من علمٍ وعملٍ صدقةً جاريةً تنير قبره، وتشفع له يوم يلقى ربه. اللهم اجعل مرضه طهورًا، وذنوبه مغفورة، وقبره روضةً من رياض الجنة، وافتح له أبواب رحمتك، وأكرمه بلقائك الكريم، كما أكرم عبادك في حياته.
ورغم أن الرحيل أدمى القلوب، إلا أن الأمل يبقى معلقًا بالله أن يزول الوجع الذي يئن منه السودان، هذا الجرح النازف في جسد الأمة، عساه يلحق به الاستقرار والرخاء، كما كان يحلم به الراحل، وكما يستحقه شعبه الطيب الكريم. فما أشبه حياة الدكتور محمد عبدالمعروف بحياة وطنه، كلاهما صبر، وكلاهما أعطى، وكلاهما تألم.. لكن العاقبة للصابرين.
رحمك الله يا أبا الطلاب، يا صاحب الابتسامة التي لم تغب، ويا روحًا نقيةً تركت أثرًا لا يُمحى.