المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

قلب صغير أضاء ظلام الحياة

 

 

محمد تهامي خبير التطوير المؤسسي

 

في زاوية من زوايا العالم حيث الأمل غالباً ما يُختبر بالصبر، كان هناك طفل صغير يُدعى خالد، يجسّد في حضوره جمال البراءة وقوة الإحساس بالآخرين. كان خالد مثالاً يُحتذى به في مدرسته، محبوباً بين زملائه، وباراً بوالديه. كل صباح، كانت والدته تُعد له حقيبته بعناية، تُضيف إلى طعامه اليومي لمسة من الحب ودعوات خفية بأن يُبارك الله له في يومه.

 

لكن، مثل غيمة تمطر ألغازاً، بدأت والدة خالد تُلاحظ شيئاً غريباً. يعود طفلها إلى المنزل بعد يوم طويل في المدرسة جائعاً بنهمٍ غير معهود. كان يطلب الطعام وكأنه لم يذق لقمة منذ الصباح، رغم أنها تعلم يقيناً أنها وضعت له وجبة كافية وشهية. بدأت الأسئلة تتدفق داخلها: لماذا هذا الجوع المفاجئ؟ هل يحدث شيء في المدرسة؟

 

لم تنتظر الأم طويلاً. فتشت حقيبته، لكنها وجدت الوجبة فارغة تماماً، كما لو أنه تناولها. لكنها شعرت أن هناك أمراً ما يخفيه طفلها الصغير. استجمعَت شجاعتها وسألته مباشرة: “خالد، هل تتناول وجبتك في المدرسة؟” أومأ برأسه موافقاً، ولكن لغة عينيه كانت تقول شيئاً آخر. عندما أصرت على مزيد من الإجابات، تهرّب، متحججاً بالتعب، ثم انسحب إلى غرفته.

 

حزمت الأم أمرها وقررت الذهاب إلى المدرسة. استقبلتها المعلمة هناك بابتسامة حانية، وأثنت على خالد قائلة: “طفلكم هو شعاع النور في هذا الفصل، لا يترك أحداً يحتاج شيئاً إلا وساعده.” لكن هذا الإطراء لم يُشبع فضول الأم أو يجيب على تساؤلاتها. طلبت رؤية خالد.

 

حين وصل خالد إلى غرفة المعلمة ورأى أمه، شحب وجهه قليلاً، ولكنه حافظ على هدوئه. سألته الأم مجدداً بحزم: “أين طعامك يا خالد؟ هل يضايقك أحد في المدرسة؟” أجاب بصوت خافت: “لا يا أمي.” لم تستطع الأم كتمان غضبها، فألحت بالسؤال حتى امتلأت عيناه بالدموع لكنه ظل صامتاً. فجأة، اندفع طفل آخر من زملائه نحو الأم، وقال بصوتٍ صغير ولكنه مشحون بالعاطفة: “خالتي، أنا من يأخذ طعام خالد.”

 

صُدمت الأم للحظة. لم تكن تتوقع هذه الإجابة. أكمل الطفل قائلاً: “أنا فقير. أمي توفيت منذ زمن، وأبي مريض. أعمل بعد المدرسة لأساعد في توفير احتياجاتنا، وأحياناً أذهب إلى المدرسة دون طعام. عندما علِم خالد بحالي، كان يعطيني وجبته كل يوم. حاولت أن أرفض، أو أقترح أن نتقاسم الطعام، لكنه كان يصرّ أن آخذها كاملة، ويخبرني أن لديه أمّاً تُحضّر له الكثير.”

 

في تلك اللحظة، شعرت الأم وكأن قلبها قد انكسر ليُعاد تشكيله في صورة جديدة. دموعها كانت رسالة صامتة عن فخرها بطفلها، لكنها لم تستطع كتمان الكلمات فقالت: “يا بني، لو كنت أخبرتني، لكنت أعددت لكما الطعام معاً. لقد كنت أكثر حكمة وكرماً مما كنت أتوقع.” ثم التفتت إلى الطفل الآخر وقالت بحنان: “وأنت، من اليوم، أنا أمك أيضاً. سأرسل مع خالد طعاماً لك، ومصروفاً يساعدك في الحياة.”

 

في تلك اللحظة، امتلأ الفصل بالدهشة والإعجاب. المعلمة، وقد اغرورقت عيناها بالدموع، قالت لخالد: “لقد علّمتنا اليوم أن الكرم لا يُقاس بالمال، بل بالقلب. إنما الكرم شعور ينطلق من أعماق النفس ليجعل العالم مكاناً أجمل.”

 

عاد خالد إلى منزله ذلك اليوم بطلاً في عيون الجميع. لم يكن فقط طفلاً بريئاً؛ كان رمزاً لمعنى العطاء في أنقى صوره. لقد أثبت أن الكرم الحقيقي لا ينتظر ظروفاً مثالية أو وفرة في المال، بل ينطلق من إدراك حاجة الآخرين والعمل بصمت لتلبيتها. كما قال إبراهيم الفقي:” إن العطاء هو الشيء الوحيد الذي يجعلك تشعر بأنك تملك أكثر مما كنت تملك.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى