يذهب التونسيون اليوم الى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس جديد بعد رحيل الرئيس الباجي قايد السبسي, ثاني رئيس لتونس منذ ثورة كانون الثاني 2011 (الرئيس الاوّل كان مُنصف المرزوقي) وسط أجواء مشحونة ومختلفة بشكل كبير, عمّا كانت عليه في الانتخابات الرئاسية الاولى 2011 والثانية في 2014 عندما هزَم قايد السِبسي الرئيس الاول المرزوقي, وبخاصة ان السبسي جاء بعد «اتفاق باريس» الذي وقّعه قي العام 2013… رئيساً حزب نداء تونس (السِبسي) وحركة النهضة (راشد الغنوشي), ما أسفَر عن شراكة تواصلَت لسنوات, قبل ان يظهر على الساحة رئيس?الوزراء الحالي يوسف الشاهد مُرشحاً من حزب نداء تونس الذي دخل في جدل وخلافات مع الرئيس السبسي (رئيس نداء تونس) قبل ان ينشقّ عنه, ويحظى (الشاهد) بدعم حركة النهضة في رسالة لنداء تونس ان اتفاق باريس لم يعد قائماً, او هو في حاجة الى تعديل إثر الخلل الذي شاب الاتفاق, بعد تصدّع نداء تونس والإنشقاقات التي حدثت فيه بخروج محسن مرزوق ولاحقاً يوسف الشاهد, وتشكيلهما حزبين جديدين (مشروع تونس اسم حزب محسن مرزوق, وتحيا تونس ليوسف الشاهد).
كذلك… يذهب التونسيون الى صناديق الاقتراع, في وقت يُصارِع فيه الموت الديكتاتور المخلوع زين الدين بن علي, الذي طلبت عائلته من التوانِسة «الدُعاء له» كونه في وضع حرج, ويقفون في الوقت ذاته أمام لائحة من 26 مرشحاً احدهم (نبيل القروي مالك قناة بَسمَة التلفزيونية) رهن التوقيف ودخل إضراباً عن الطعام, إحتجاجاً على احتجازه وحرمانه من حقوقه في الدعاية الإنتخابية, التي مارسها ويُمارسها قبل «الصمْت الانتخابي»…. المرشحون الآخرون (الذين انسحب منهم اثنان هما محسن مرزوق وسليم الرياحي لصالح عبد الكريم الزبيدي الذي يبدو ?نه بات مؤهلا لولوج الجولة الثانية).
وصلَت المعركة الإنتخابية ذروتها لأول مرة في العالم العربي بثلاث مُناظرات تلفزيونية, قيل في ردود الأفعال عليها انها مُجرّد عرض أفكار عادية ولم يأت المرشحون بجديد, سوى تكرار شعارات لم يُثبِت معظم من تحدّثوا عنها ولا احزابهم, انهم استطاعوا خلال وجودهم في السلطة تحقيقها, كما هي حال مرشحي حركة النهضة شريكة نداء تونس في الحكومة التي أعقبت الثورة وكان رؤساء الحكومات ينتمون اليها مثل حامد الجبالي (المُرشّح الرئاسي حالياً) وعلي العريضي (غير المُرشّح), والآن نائب رئيس الحركة الشيخ عبدالفتاح مورو, الذي دخل زعيم الحرك? الشيخ راشد الغنوشي بقوّة لدعمِه ومطالبة «مُرشحي الثورة», الذين يرفَعون شعار «مواصلَة الدفاع عن اهداف الثورة وشعاراتِها، الإنسحاب لفائدة الشيخ مورو, كون حظوظه أوفر من كل هؤلاء, الذين اذا استمرّوا في الترشّح ولم يستجيبوا لندائِه, فإنهم سيُسهمون في إفراغ خزان النهضة الانتخابي, ويُنقِصون من الاصوات المُسندة اليه. ولم يتردّد الغنوشي في تسمية هؤلاء، وهم ثلاثة… أوّلهم حمادي الجبالي احد قيادات النهضة ورئيس الحكومة التونسية الاولى, بعد اتفاق باريس مع حزب نداء تونس الذي استقال/ انشق عن النهضة, وكاد يحظى بدعمها في?المعركة الرئاسية قبل ان يستقِر رأيها على ترشيح الشيخ مورو, وغدا الآن (الجبالي) في نظر الغنوشي صاحب حظوظ ضعيفة في المرور الى الدور الثاني. أما الآخر المدعو للانسحاب فهو سيف الدين مخلوف الفاقد للسند الحِزبي, والثالث وهذا هو اللافت.. حيث السجِال والتراشُق محتدم بينه وحركة النهضة ونقصد منصف المرزوقي،الذي يقول الشيخ الغنوشي ان استطلاعات الرأي تضعه في آخر القائمة من حيث نوايا التصويت, وأن ما حصل عليه من دعم عندما نجح في الفوز برئاسة تونس لاول مرة بعد الثورة, هو من اصوات حركة النهضة التي لها مُرشّحها الان وهو «ال?َوّلى» بهذه الاصوات.. وفق تعبير الشيخ الغنوشي, فيما يُحذّر المرزوقي في تصريحاته ومقابلاته الاعلامية مِن استمرار اتفاق باريس بين نداء تونس والنهضة, رغم عِلمه والجميع ان اتفاقاً كهذا بات من الماضي, بعد ان لم يَعُد هناك مرشح لنداء تونس, وان الاخير الذي ازداد ضَعفاً بعد رحيل الرئيس السبسي, والانشقاقات التي حصلت فيه، يدعَم وزير الدفاع الحالي عبدالكريم الزبيدي, وهو مرشح قوِي وفق الاستطلاعات, قد ينجَح في الوصول إلى الجولة الثانية لينافِس الشيخ مورو, الذي هو الآخر يبدو أحد أقوى المنافِسين للولوج الى دورة انتخابية ?انية.
عندها ستحتدِم المنافَسة ويَحدث الاستقطاب الحاد الذي قد يُسفِر عن مَشهد تونسي مُختلف, سيترك آثاره على المشهد الإقليمي ببعده الدولي وخصوصاً الأوروبي، الذي قد ينظر بقلق وريبة الى وصول مرشح إسلامي لسدّة الرئاسة, فضلاً عن أن زعيم حركة النهضة نفسه الشيخ الغنوشي يرأس قائمة الحركة عن مدينة تونس العاصمة, لانتخابات برلمان تونس (الثالث) بعد الثورة, والتي ستجري في السادس من تشرين الأول المُقبل، حيث يَرشَح أن الغنوشي سيُنافس على رئاسة مجلس نواب الشعب (كما هو إسمه رسمياً) الأمر الذي سيُعيد إلى الأذهان المشهد المصري بعد ?ورة 25يناير، وإحكام جماعة الاخوان المسلمين المصرية قبضتها على مفاصِل الدولة التشريعية (عبرالبرلمان) والتنفيذية (عبرالرئاسة), وما انتهت إليه الأمور لاحقا… بات معروفاً.
أحد من المُرشحين للرئاسة في تونس, لم يطرَح برنامجاً مُحدّداً ما لفت انتباه الذين تابعوا المناظرات التلفزيونية الثلاث التي جرت الأسبوع الماضي. والوحيد – ربما – الذي تحدّث عن مواصَلة (ما كان قد بدأَه)عندما كان رئيساً لتونس, في «مُحاربة التفاوت الطبقي والفساد وتغليب العقل السياسي على الاندفاعات» هو الرئيس الأسبق مُنصف المرزوقي الذي تضعه الاستطلاعات بالفعل في آخر القائمة، وإن كان لفَتَ إلى مسألة مهمة وهي أن «الإعلام أصبح الفاعِل السياسي في بلاده, فيما تحوّل السياسِيون إلى عبيد للإعلام»، كما قال في معرض تحذيره ?ن الإعلام والمال الفاسد.
ما يجدر ذكره في النهاية أن صلاحيات الرئيس في تونس ما بعد الثورة ليست مُطلَقة, وبالتالي تبدو قُدرته على التأثير في المشهد الوطني سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وخصوصاً تشريعيّاً مَحدودة ومُقيّدة، الأمر الذي بالغ المرشحون في تجاهُل تلك الحقيقة واعتبار أنفسهم وكأنهم سيُخرِجون تونس من الأزمات التي عصفَت بها بعد الثورة, وتسديد الاستحقاقات ومُواجَهة التداعيات التي سيَحين موعدها بعد الانتهاء من الإنتخابات الرِئاسيّة وخصوصاً البرلَمانِيّة.