السترات الصفراء ربيع أوروبا القادم
بقلم. عمر الحلبوسي
في ضل تصاعد حدة التظاهرات الشعبية في فرنسا التي يطلق عليها بالسترات الصفراء نسبتاً للسترات الصفراء التي يرتديها المتظاهرون و التي أصبحت بمثابة تعويذة التظاهرات التي أخذت بالتصاعد يوما بعد يوم وصاحبها اعتقالات لعدد كبير من المتظاهرين وقتل اثنين منهم على يد عناصر الأمن الذين افرطوا باستخدام وسائل القمع و التنكيل بغية احتواء التظاهرات الناقمة على رفع أسعار الوقود و غلاء المعيشة الذي أدى لانتفاضة شعبية شهدتها شوارع باريس و أبزر شارع فيها الشانزليزيه الذي شهد مصادمات بين الشرطة و المتظاهرين و رافق التظاهرات أعمال تخريب لبعض المحال التجارية و حرق للسيارات من قبل المتظاهرين الذين أخذ عددهم بالتزايد يوميا بعد يوم منذ انطلاقتها في السابع عشر من نوفمبر و حتى الآن و التي تقابل بالقمع من قبل الحكومة.
فمن أبرز انعكاسات تظاهرات باريس هو قيام المتظاهرين بإغلاق مدخل البرلمان الفرنسي و اتهام النواب بعدم تمثيل الشعب الفرنسي و هذا يعد بمثابة اسقاط الشرعية عن البرلمان بأمر الشعب, وكذلك تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن (المتظاهرون غوغائيون و أنهم تعدوا حدود الاحتجاج السلمي) , هذا التصريح من قبل الرئيس ماكرون و ما سبقة من إغلاق المتظاهرين للبرلمان الفرنسي يوشي بأن التظاهرات الباريسية لن تقف عند حدود إلغاء قرار رفع أسعار الوقود و أن ماكرون سيكون الخاسر الأكبر في الساحة السياسية الفرنسية و خصوصاً أن حكومته ارتكبت من قبل أخطاء كثير ساهمت بانخفاض شعبيته لدا الشعب الفرنسي, وقبل هذا كله نستذكر ما نشرته مجلة التايم الأمريكية قبل عام من الآن تقريبا عندما وضعت صورة للرئيس ماكرون على واجهة المجلة و علقت عليها في إحدى جهاتها ( أنه القائد القادم لقيادة أوروبا ) ولكن على نفس الغلاف و في الأسفل أكملت التعليق بقولها ( إذا تمكن من قيادة فرنسا) هذا الدس الخفي قد يمر على البعض بعفوية دون انتباه, لكنه في الحقيقة كان يضمر خلفه شيء سيفاجأ به ماكرون فيما بعد و قد تكون السترات الصفراء هي المقصودة.
إن قطار الربيع الأوروبي لم يقتصر على فرنسا فقط, بل أخذ يمر في عدد من الدول الأوروبية و ركابه اصحاب السترات الصفراء الذين تظاهروا بقوة في بلجيكا التي قابلتهم القوات الحكومية بالقمع والتنكيل بغية الحد منها و السيطرة على الوضع , لكن التظاهرات في بروكسل عاصمة بلجيكا تتصاعد يوما بعد يوم مطالبتاً بنفس مطالب الفرنسيين , لكن السترات الصفراء في بلجيكا علّت سقف مطالبها إلى المطالبة بإسقاط الحكومة وتغييرها خصوصا مع ازدياد عمليات القمع و المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين و الذي قوبل من المتظاهرين بازدياد أعدادهم و الإصرار على مواصلة التظاهرات رغم أنه في يومٍ واحدٍ فقط اعتقل 400 متظاهر من أصحاب السترات الصفراء في بروكسل.
ثم سار قطار الربيع الأوروبي ليدخل هولندا بعد بلجيكا ليقّل السترات الصفراء الهولندية التي تظاهرت في أمستردام مطالبتا بتخفيض أسعار الوقود و تخفيض الضراب لتدخل هولندا ضمن ركاب قطار الربيع الأوروبي الذي انطلق من فرنسا ثم بلجيكا و هولندا و ليفتح الطريق للمرور بدول أوروبا الأخرى و التي لا تقل مشاكلا عن هذه الدول الثلاث التي تختنق بالغاز المسيل للدموع الذي تطلقه قوات الأمن على المتظاهرين بغية قمعهم و الحد من غليانهم والسيطرة عليهم.
قد يبدو للبعض أن ما يحدث في هذه الدول الأوروبية في وقت متزامن مجرد أحداث فورية وقتيه قد تختفي في أي لحظة من المشهد السائد في هذه الدول , لكن الحقيقة نحن نشهد ربيعاً أوروبيا انطلق من منبع الثورات الأوروبية فرنسا ليقود لمرحلة تصعيد ثورية جديدة سيكون لها ما بعدها و ستنعكس على السياسية الأوروبية برمتها الداخلية و الخارجية و لا أستبعد في هذا الصدد انهيار الاتحاد الأوروبي و تفككه , فنحن نشهد تغيرات في ملامح السياسة العالمية ابتدأ من الشرق الأوسط و الشرق الأدنى ثم جاء الدور على القارة العجوز لتأخذ نصيبها من هذا التغيير بربيع أوروبي تقوده السترات الصفراء التي ستغير معالم السياسة الأوربي, وحتى إن لم تحقق تظاهرات السترات الصفراء شيئا مما ذكر في الوقت الحالي ,إلا أنها ستهيأ البيئة الشعبية لثورات قادمة ستحدث فارقا كبيرا لا محال.
قد يرى البعض أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أمرا طبيعيا لا شائبة و دسائس خلفه , لكنهم نسوا تاريخ بريطانيا المليء بالدسائس و هذه السياسة المتوارثة جيلاً بعد جيل ما زالت تواصل نفس النهج المتبع من قبل الذي توارثوه عن أسلافهم الذين غيروا كثيرا من معالم السياسة العالمية و الجغرافيا و حتى طبيعة التكوين الثقافي في المجتمعات , فانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جاء بمثابة الضغط على زر انطلاق قطار الربيع الأوروبي الذي سيفكك الاتحاد الأوروبي سواء على المدى القريب جدا أو يتأخر قليلاً , وهذا الإنسحاب ذكي جدا سيجعل من بريطانيا الأقل تضررا من الربيع الأوروبي , بل و أنها المستفيد الأعظم منه فستكون الأكثر استقرارا و ستساهم في التلاعب بملامح سياسة الدول التي ركبت في قطار الربيع الأوروبي أو التي ستركب فيما بعد.
من الطبيعي جدا أن تتضارب قراءة المشاهد و الأحداث العالمية في أي ساحة كانت سواء سياسية أو اقتصادية أو عسكرية وكل شخص يفسر الأحداث وينظّر بالاعتماد على معطيات الحاضر وربطها بالماضي و ما تشهده اليوم وسائل الإعلام من عملية غسيل دماغ جماعي طال شعوب الأرض, اضافة لتنامي الروح الثورية في نفوس وعقول الأجيال الصاعدة و التي هيمن على تفكيرها قوة الإرادة و الاصرار على التمرد على الواقع الذي ترسمه الحكومات لمحاولة كسر الأطواق والقيود للتحرر منها كله ينبأ بأننا أمام ربيع أوروبي شمل كل هذه المعطيات , وكذلك تحركه أيادي المستفيدين من إرباك سياسة القارة العجوز و إضعاف أبرز دولها فرنسا منبع الثورات و بلجيكا مقر الاتحاد الأوروبي و القطار قادم على الآخرين.
و نحن بانتظار مآلات الوضع و متغيرات الساحة ………