
لم أكن أتصور يوما بأن هناك رابط مشترك بين سائل الدم الذي يغذي عروق الجسد، وبين سائل القلم الذي يسطر الكلمات، إلا أنني تيقنت أن بينهما رابط قوي، يكمن في ضخ الروح، سواء كانت تلك الروح عبارة عن تحريك جسد الإنسان بالكامل، أو تسطير ما يرعفه القلم من مداد.
هذا التصور أكتشفته حينما إنتقلت ” والدتي ” رحمها الله إلى دار الآخرة، حيث جفت الدماء في عروقي وأنا أشاهدهم يحملونها على أكتافهم، ويحثون التراب على قبرها، وأنا لم أستطع أن أُحرك ساكنا، لثقل أطرافي التي لم تعد تحملني، سوا النظرات الأخيرة التي كانت عبارة عن نظرات الوداع.
بينما القلم الذي حملته لأسطر الكلمات رثاءً على رحيلها، لم يطاوعني، بل جف حبره عمدا، لأنه على يقينٍ أن الكلمات لن توفيها حقا مهما كتبت عنها، لأقف مشدوها، وأنظر لحالي، لما الدماء والحبر فَعَلا بي هكذا.
وبعد برهة من الزمن وجدتهما على حقٍ حينما أعدت شريط ذكرياتي معها، فوجدت الذكريات حافلة بالمنح والعطاء من دون مقابل، لأن الأم هي الحضن الدافي، والبيت الكبير، والظل الظليل، وهي الأمن والأمان لكل أسرة.
فما إن سمعت خبر وفاتها، حتى سالت دموعي منهمرة رغما عني مع نحيبٍ تسبب لي بإنتفاخٍ في اللوز، فعجزت عن الحديث مع أي شخص، وكيف لي الحديث؟ وأنا فاقد أعز من في الوجود بالنسبة لي، وأغلى إنسان فتح ذراعيه لي، وهي من ربتني، وتعبت على راحتي، وضّحت من أجلي، وقدمت ليّ الكثير، الذي يصعب عليه كتابته لأن هذه الأسطر لا تفيها حقها.
فعزائي ياوالدتي أنك رحلتٍ عند العزيز الحكيم، الذي رحمته تسع كل شيء، وهو أرحم الراحمين، كما أنها ياوالدتي قضاءه وقدره الذي كتبه على الجميع، فما علينا إلا التسليم، وحمده على كل شيء، وتيقني أني لن أنساكِ ما حييت، وستظل ذكراك عالقة في ذهني، وحبكِ في قلبي إلى أخر نفس في حياتي .. وما يسعني إلا أن أقول ” إنا لله وإنا إليه راجعون .. اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها.
محبك إلى الأبد إبنك/ احمد هاني القحص