المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

مقالات

ورحل الرجل الكبير !!

 

 

فَمَا كَانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ

وَلكنهُ بُنيانُ قومٍ تَهَدَّمَا !!

حين يرحل الكبار لا تُطوى صفحاتهم بسهولة ولا تُنسى مواقفهم ولا تُمحى آثارهم !!

رحل بالأمس الخال منيزل العنزي أبو صالح الرجل الذي لم يكن فقط نائباً في مجلس الأمة لعدة دورات بل كان أباً وظهراً وسنداً لكل من عرفه .. رجلٌ تميّز بحكمته وبتواضعه وحبّه وشغفه في خدمة الناس ..

سألنا يوماً : ما هي السعادة الحقيقية ؟

قلنا المال وقلنا الصحة وقلنا الراحة ..

كان يستمع ثم يرد بهدوء الواثق :

السعادة الحقيقية أن تكون في موقع ما ويقدّرك الله أن تقوم بحاجات الناس !!

قالها وهو يعرف معنى السعادة لأنه عاشها ..

كان ديوانه مفتوحاً وصدره واسعاً وأذنه تسمع ويده تمتد دون انتظار شكر ..

ساعد المئات وربما الآلاف دون أن يذكر اسماً أو موقفاً

لأنه كان يرى أن قضاء حوائج الناس لا يُمنن بل يُشكر الله عليه ..

وكان منذ شبابه الباكر يخدم الجميع لا يرد أحداً ولا يميّز بين قريب أو بعيد في حاجتهم لكنه كان يعتبر خدمة جماعته واجباً مضاعفاً ووفاءً أصيلاً لجذوره وأهله ..

كان كثير السؤال عن الناس لا ينسى أحداً ..

ما من طالب علمٍ أو باحث عن وظيفة أو مريض أو مظلوم إلا ووجد عنده اهتماماً صادقاً ومتابعة حثيثة ..

كان نائباً لا يكتفي بالكلام بل يطرق الأبواب ويتابعها بنفسه .

 

سألته مرة بعد أن ترك البرلمان وتغيّر البعض من حوله : ولو عاد بك الزمن هل تختار نفس النهج ؟

ابتسم وقال نعم بنفس النهج … ما أغيّره .

قالها بثقة من لا يندم لأنه كان يعلم أن طريق الخير لا يُستبدل !!

وسألته ذات صيف : أين صيفك هذا العام ؟

فرد عليّ بأبياتٍ وطنية نابعة من قلبٍ أحب بلاده بإخلاص :

يا زين حر (كويتنا) مع غباره

ويا زين جمع ربوعنا بالدواوين !!

من يجحد المعروف عمره خسارة

‏خسران بالدنيا وملعون بالدين !!

 

فاستأذنته بتصويرها للتاريخ فوافق مشكوراً كعادته الكريمة..

صورتها وطارت بها الركبان لأنها كانت كلمات نابعة من وجدان صادق لا يعرف التصنّع !!

 

ولأن الذكريات لا تُمحى أحتفظ في قلبي موقف من المواقف الكثيرة لكنه علّمني الكثير ..

كنت صغيراً حين طلبت من والدي أن يشتري لي جهاز فيديو وكان الخال بوصالح جالساً معنا ..

قال لوالدي : اشتر له فيديو ترى فيصل يستاهل ..

وفي لحظةٍ عفوية قبّلت خشمه فتأثر … وأقسم أن يكون هو من يشتريه لي !!

وبالفعل اشترى لي جهازاً من ماركة ناشيونال كاترج وكان المبلغ 280 ديناراً كبيراً في ذلك الوقت لكنه دفعه عن طيب نفس ..

ما زلت أحتفظ بتفاصيل الفاتورة التي كتب فيها :

الاسم : الطفل فيصل ..

هذا هو أبو صالح الإنسان !!

كان رحمه الله حريصاً على صلاة الفجر لا تفوته بل يسبقها بالاستعداد لها وكأنها أهم موعد في يومه !

وفي رمضان كان يسألنا بسؤال بسيط لكنه يحمل في داخله روح التشجيع :

كم جزءاً قرأتم اليوم ؟!

لا ليسأل فقط بل ليزرع فينا الحماسة وليفتح باب التسابق إلى القرآن دون أن يُشعرنا بثقل أو تكليف ..

من لم يقرأ يشعر بالخجل المحبّب ومن قرأ جزءاً يتحمّس ليزيد !!

هكذا كان يشجّعنا بلطف ويقودنا إلى الخير دون أن يأمر ..

وإننا إذ نودّعه اليوم نشهد أننا فقدنا رجلاً من طرازٍ نادر وفقده مصابٌ جلل وخسارة لا تعوّض !!

وكما قال الشاعر :

لَعَمرُك ما الرزيةُ فَقدُ مالٍ

ولا شاةٌ تُموتُ ولا بعيرُ !!

ولكن الرزيةَ فقدُ حرٍّ

يموتُ بموتِه خلقٌ كثيرُ !!

 

نودّع بساطته وحكمته وابتسامته التي كانت تسبق كلامه

نودّع رجلاً إن أردت أن تختصره في كلمة قلت : نِعْم الرجل !!

رحمك الله يابو صالح وغفر لك وجعل ما قدّمت في ميزان حسناتك .. سيبقى ذكرك حيّاً وسيرتك تروى ومواقفك تدرّس !!

اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة واجزه عنّا وعن من خدمهم خير الجزاء .

فيصل خزيم العنزي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى