هل ستبيع روسيا الـ«S-400» إلى تركيا فعلاً ؟
تسعى تركيا بشكل حثيث منذ عام 1985 إلى الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية، وذلك بهدف تطوير صناعاتها في هذا المجال، لتلبية احتياجاتها الدفاعية، بما يعطيها استقلالية أكبر في القرار السياسي والعسكري.
وشهدت هذه الجهود نقلة نوعيّة في عهد حزب العدالة التنمية، لا سيما خلال العقد الأخير، حيث تفضّل أنقرة الاعتماد على صناعاتها المحليّة لتعزيز قدراتها الذاتيّة، ولكن عندما تكون المهمة أكبر من قدرة الشركات الدفاعيّة التركية على إنجازها لأسباب تقنية أو ربما مالية، فإنّها تفضّل حينها صيغة اتفاقات التطوير المشترك للمنتج مع شركاء آخرين. وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فصيغة الإنتاج المشترك أو الترخيص بالإنتاج المشترك.
وتطمح تركيا إلى الاستغناء كلياً عن المستوردات العسكرية بحلول عام 2023، ووفقاً للمعطيات المتوافرة، كانت تركيا تستورد نحو %80 من احتياجاتها العسكرية حتى عام 2002، وما لبثت هذه النسبة أن انخفضت، وأصبحت البلاد تؤمّن اليوم نحو %50 من احتياجاتها العسكرية عبر صناعاتها المحليّة كما تشير التقارير المحليّة.
وعلى الرغم من أنّ التركيز الأكبر طال خلال المرحلة الماضية صناعة المدرعات، والطائرات من دون طيار، والمدافع، والطائرات المروحية والتدريبية، والصواريخ الموجّهة، وأنظمة الدفاع الجوي القصيرة المدى، فإن البلاد بقيت من دون نظام دفاع جوي طويل المدى مستقل عن الغطاء الذي يؤمنه حلف شمال الأطلسي، وهو ما يؤثّر بشكل سلبي على سعيها لحماية مصالحها وأمنها القومي، كما أنّه يمنعها من تحقيق الاستقلالية الكاملة في مجال الدفاع الجوي الطويل المدى.
تغير البيئة الأمنية
في السابق، لم تكن هناك حاجة ملحّة لدى تركيا للحصول على هذه المنظومة. لقد كان لمثل هذا الأمر فوائد كثيرة في ذلك الوقت، لا سيما من الناحية العسكرية، كما أنّه وفّر على أنقرة أعباء مالية كبيرة. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تغيّرت البيئة الأمنية والسياسية التي كانت قائمة، وطرأت تحوّلات سريعة على نوع التهديدات للأمن القومي التركي.
كما رافق ذلك انخفاض في أهمية تركيا بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي، لا سيما بعدما رفضت أنقرة السماح لقوات الناتو بغزو العراق عبر أراضيها، تبعه تطوير ترسانات صاروخية هائلة من قبل جيران تركيا، لا سيما إيران والعراق وسوريا وروسيا.
وكانت تركيا قد صمّمت على الحصول على نظام دفاعي جوي طويل المدى، وأجرت مناقصة في هذا المجال شاركت فيها شركات عسكرية كبرى من عدد من الدول المتقدمة في مجال الصناعات الدفاعية، وهي:
● الولايات المتّحدة: منظومة باتريوت Patriot الدفاعية عبر شركتي رايثيون ولوكهيد مارتن.
● الصين: منظومة FD-2000 الدفاعية، وهي نسخة معدّلة للتصدير عن منظومة HQ-9 الصينية.
● الائتلاف الأوروبي (فرنسا وإيطاليا): منظومة Aster – 30 عبر شركة يوروسام الأوروبيّة.
● روسيا: منظومة S-300 عبر شركة روزوبورون إكسبورن.
في 26 سبتمبر 2012، أعلنت اللجنة التنفيذية للصناعات الدفاعيّة التركيّة SSIK، التي كان يترأسها رئيس الحكومة آنذاك رجب طيب أردوغان، بأنّ شركة CPMIEC الصينيّة فازت بالمناقصة إثر العرض الذي قدّمته لإنتاج نظام دفاع صاروخي «أرض – جو» بقيمة حوالي 3.44 مليارات دولار.
لكن الصفقة تعرضت لانتقادات كبيرة من قبل حلف شمال الأطلسي والولايات المتّحدة، وحاول الجانب التركي تحسين العروض الأخرى الأميركية والأوروبية من خلال استخدام ورقة العرض الصيني، لكنّ هذه الخطوة لم تنجح، تبع ذلك تذبذب الالتزام السياسي والأمني لحلف الناتو في حماية تركيا إثر احتدام الأزمة السورية، وفشله كذلك في الدفاع عن تركيا في وجه روسيا، مما اضطر أنقرة الى إلغاء المناقصات من دون إلغاء المشروع.
مفاوضات جدية أم مناورة؟
مع إعادة تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا عام 2016، عاد الحديث مجدداً عن مشروع تأمين نظام دفاع صاروخي طويل المدى، ودخل الجانب التركي في مفاوضات مع الشركات الدفاعية الروسية هذه المرة. ومع زيادة التوتر في العلاقة بين تركيا وإدارة أوباما وتركيا والاتحاد الأوروبي، تمّ الكشف نهاية عام 2016 عن أنّ اجتماع اللجنة الوزارية الروسية – التركية المشتركة، سيبحث تزويد أنقرة بمنظومة دفاع جوي صاروخية روسية «S-400»، حيث أكّد وزير الدفاع التركي فكري أيشك في مارس 2017 أنّ المفاوضات بين مسؤولي البلدين بهذا الخصوص وصلت إلى مرحلتها النهائية. وعلى الرغم من أنّ بعض المصادر كانت قد أشارت الى أنّه سيتم بحث هذا الموضوع خلال الزيارة التي قام بها الرئيس أردوغان الى روسيا قبل أيام، فإنّ البيان الختامي للقاء الزعيمين خلا من أي إشارة إليه، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول مدى جدية الموضوع، وعمّا إذا كانت موسكو ستقوم بالفعل ببيع فخر صناعاتها الدفاعية الجوية «S-400» إلى أنقرة، أم أنّ الموضوع لا يعدو كونه مناورة تركية جديدة.
يرى المتفائلون أنّ هذه الجهود جدية من الطرفين، وأنّ تركيا تحتاج إلى هذا النوع من المنظومات الدفاعية، وهذا الأمر يعد بمنزلة فرصة للجانب الروسي، سواء في ما يتعلق بتمتين العلاقات السياسية مع تركيا ورفعها الى المستوى الاستراتيجي – وهو أمر يفيد موسكو لناحية تحييد و/أو إبعاد أنقرة عن الولايات المتّحدة وأوروبا وحلف الناتو – أو في ما يتعلق بفتح أسواق جديدة غير مسبوقة لصناعاتها العسكرية.
تقوم تركيا بمحاولات حثيثة بالفعل لإعطاء دفعة جديدة لتوجّهها المستقل في الجهود الدفاعية، وهي جهود تكثّفت في السنوات الأخيرة، حيث كانت أنقرة قد بدأت بإنتاج أسلحة في الجو والبر والبحر، لكن من دون نظام دفاع جوي مستقل لن تكون أنقرة قد وصلت الى مبتغاها بشكل كامل، لا سيما أنّ الناتو بدا متردداً ومتقاعساً في أكثر من مناسبة، وفي هذا السياق فإن الاتجاه الى موسكو يبدو منطقياً بالنسبة الى هذه الشريحة من المتفائلين.
ويرى هؤلاء أنّ الاندفاع التركي مؤخراً نحو روسيا لاسيما فيما يتعلق بالمشاريع الاستراتيجية المتعلقة بنقل النفط والغاز أو فيما يتعلق بمشروع أكويو النووي، يعدّ مؤشراً على أنّه من غير المستبعد أن تقوم موسكو بمثل هذه الخطوة، وأنّ الأمور ستكون أسهل إذا ساعدت كذلك على تأمين القروض المالية اللازمة للجانب التركي لإتمام هذه الصفقة.
عقبات أمام الصفقة
في المقابل، يرى آخرون أنّ من الصعب تقبّل فكرة أن موسكو ستقوم ببيع تركيا منظومة (S-400) الدفاعية فائقة التطوّر، خصوصا أنّ الأخيرة عضو في حلف «الأطلسي»، ومن السخافة القول بأنّ بيع مثل هذه المنظومة ممكن إستنادا الى نيّة الطرفين في رفع علاقاتها السياسية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، إذ أنّ هذا النوع من الصفقات بالتحديد لا يتم إلا بين شركاء استراتيجيين، وبالتأكيد فإن أنقرة لم تبلغ بعد هذا المستوى لدى موسكو حتى تقوم ببيعها مثل هذه المنظومة، لاسيما أنّ الأخيرة لم تبع النظام إلى أي جهة باستثناء الصين. أضف إلى ذلك أنّ الميزة الأساسية لهذه المنظومة تكمن في التصدي بشكل للتهديدات القادمة من الجو سواء عبر طائرات استراتيجية أو قاذفات أو مقاتلات أو صواريخ بالستية أو صواريخ كروز، ومعظم هذه المخاطر التي من الممكن أن تهدد الأمن القومي التركي تأتي من دول أو من أسلحة مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بروسيا وليس بأحد آخر.
بمعنى آخر الصواريخ البالستية التي من الممكن لها أن تهدد الأمن القومي التركي، تمتلكها في الغالب دول حليفة لروسيا في المنطقة (إيران، سوريا، وحتى العراق سابقا)، كذلك الأمر بالنسبة إلى الجماعات التي من الممكن أن تستخدم مثل هذه الأمور أو تمتلك المعرفة لفعل ذلك، فهي جماعات تابعة لهذه الدول.
لكن حتى وإن افترضنا أن موسكو قد قررت بيع المنظومة إلى تركيا، فستكون الأخيرة مجبرة على عدم ادماجها في منظومة الناتو، وهناك من يعتقد أنّ تركيا لن تصرف الكثير من المال والجهد على منظومات متعددة ومختلفة وربما متضاربة إلا إذا كان الهدف هو شراء بعض البطاريات المحدودة لحماية بعض المواقع المختارة ذات الطبيعة الاستراتيجية فقط.
فضلا عن ذلك فإن بيع موسكو لهذه المنظومة إلى دول عضو في «الناتو» ينطوي دوما على مخاطرة تتعلق بامكانية إطلاع الحلف على تقنّياتها وربما اختبار هذه المنظومة عمليا من قبل الحلف، وهي كلّها عوامل ترجّح عدم موافقة موسكو على نقل (S-400) إلى تركيا.
أيّاً يكن الأمر، فمن الواضح أنّ تركيا باتت في حاجة ماسة إلى نظام دفاع جوي صاروخي بعيد المدى ومستقل، وهو أمر تعي القيادة التركية أهمّيته لاسيما بسبب تزايد المخاطر العابرة للحدود على الأمن القومي وتزاحم التنافس بين القوى الإقليمية والدولية في الساحات الإقليمية المجاورة لتركيا، حيث بات الاعتماد شبه الكلّي على الغطاء الذي يوفّره حلف شمال الأطلسي عائقاً أمام صيانة تركيا لأمنها القومي وحماية مصالحها الإقليمية.