مجرد الخوف من التحرش الجنسي يوتِّر علاقات العمل

في وادي السيليكون، رفض بعض المستثمرين الذكور اجتماعات فردية مع النساء أو أعادوا جدولة مواعيدهن من المطاعم الى قاعات المؤتمرات. وفي وول ستريت، حاول بعض كبار الرجال تجنب الاجتماعات المغلقة مع النساء الأصغر سنا. وفي المحطات التلفزيونية، ينتبه بعض المديرين التنفيذيين الذكور الى كلماتهم جيدا قبل النطق بها أثناء حديثهم مع المواهب النسائية.
وفي المقابلات، يتحدث الرجال بحذر شديد بسبب حالات التحرش الجنسي الأخيرة، ويشعرون بالقلق من أن اتهاما واحدا أو سوء فهم لتعليق لهم يمكن أن ينهي حياتهم المهنية. لكن تصرفاتهم تلك تؤثر في مهن النساء أيضا، وربما تحرمهن من نوع العلاقات التي تؤدي الى الترقيات أو الاستثمارات.
انها نتيجة غير مقصودة لموسم الفضائح الجنسية الذي يجتاح عالم الأعمال والترفيه في الولايات المتحدة الأميركية. وتبين البحوث أن بناء علاقات حقيقية مع كبار المسؤولين ربما يكون أهم عامل مساهم في التقدم الوظيفي. ويطلق الباحثون على هذا الأمر اسم «الرعاية». وخلافا للموجهين، الذين يقدمون المشورة وغالبا ما يتم تعيينهم رسميا، فإن «الراعي» هو شخص يتمتع بالسلطة ويعرف الموظف وامكاناته جيدا ويؤمن بمهاراته وقدراته، ويدافع عن نجاح الموظف الذي يأخذه تحت جناحيه ويرعاه في الشركة ويساعد على ازالة العقبات أمام التقدم الذي يحرزه ويدعمه. وهو شخص لديه ما يكفي من النفوذ لاحداث فرق في القرارات التي يتخذها الآخرون بشأن تقدمه في السلم الوظيفي.
لكن النساء أقل احتمالا لبناء مثل هذه العلاقات، ويرجع ذلك جزئيا الى أن كبار المسؤولين والنساء المبتدئات يشعرون بالقلق من أن مثل هذه العلاقة قد يساء فهمها من قبل الآخرين.
على كل مستوى، يقول الرجال، وبمعدلات تفوق النساء، انهم يتفاعلون مع كبار المسؤولين مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، وفقا لبحث اجرته شركة ماكينزي ومؤسسة «لين ان» غير الربحية. هذا الخلل هو السبب الرئيسي وراء بقاء المرأة لفترات طويلة في مستويات وظيفية أقل من الرجال في الشركات، وفقا لمجموعة متنوعة من البحوث.
تقول سيلفيا آن هيوليت، المؤسسة والرئيسة التنفيذية لشركة «سنتر فور تالنت انوفيشن» للأبحاث « وجدنا أنهم يتجنبون التواصل الفردي لأنهم يخشون من القيل والقال والاشاعات أو الشك في أن أنثى بارزة بكفاءتها في فريق ما لها علاقة جنسية مع قائد الفريق» .
وتشير الى أن الرعاة «يجب ان ينفقوا الاموال والمجازفة بشأن موظف واعد وصاعد، ولا يقومون بذلك ما لم يعرفوهم ويثقوا بهم. وهذه العلاقات تعد حاسمة للتقدم الوظيفي».
شيوع التوتّر
وأصبح بعض أماكن العمل أكثر توترا في الأشهر الأخيرة، بعد حالات التحرّش الجنسي البارزة التي تم الكشف عنها في «فوكس نيوز» وفي أماكن أخرى، وبعد التعليقات المبتذلة حول النساء، التي أدلي بها دونالد ترامب والتي ظهرت خلال حملة الرئاسة. وفي الآونة الأخيرة، تسبّبت الاتهامات الموجهة ضد المنتج السينمائي الكبير هارفي وينشتاين في فصله.
وتقول جمعية ادارة الموارد البشرية، وهي مجموعة صناعية إنها شهدت زيادة في الأسئلة من الأعضاء حول التحرّش الجنسي في مارس الماضي، عندما تصدرت حالات تحرش في «أوبر» و«فوكس نيوز» والأكاديميات العسكرية الأخبار، وفي أغسطس، عندما ظهرت مرة أخرى حالات تحرش في فوكس ووادي السيليكون وأماكن أخرى.
وفي بعض الحالات، أدى تحسن الوعي الى تحسين سلوك الناس. فكما يقول أحد المسؤولين التنفيذيين الذكور في صناعة الأخبار والترفيه، الذي تحدث من دون الكشف عن هويته بسبب الحذر الشديد السائد حاليا بشأن هذا الموضوع «الناس باتوا أكثر حساسية حيال سلوكياتهم الشخصية؛ لأنهم رأوا ما يمكن أن يحدث. وهو ما يعمل على توفير بيئة عمل أفضل».
وفي أماكن أخرى، بدأ الرجال في تجنُّب التعاطي الفردي مع النساء تماما. ففي أوستن في تكساس، تم توجيه توبيخ رسمي لمسؤول في المدينة خلال الشهر الماضي لرفضه مقابلة الموظفات.
وقد اتخذ بعض مستثمري التكنولوجيا خطوات مماثلة. فكما يقول أحد رواد رأس المال الاستثماري الذي تحدث من دون الكشف عن هويته، للسبب نفسه: «حل شعور كبير بالقشعريرة في وادي السيليكون في أعقاب كل هذه القصص، والناس مفرطون بالحذر والخوف من التصرّف بشكل خاطئ».
كما يتجنب البعض عقد اجتماعات فردية مع سيدات الأعمال المبادرات والموظفات المحتملات.
وكما يقول المستثمر «قبل ذلك، ربما كنت تقول: بالطبع سأفعل ذلك، وسأفعل ذلك بشكل خاص للأقليات، بما في ذلك النساء في وادي السيليكون. الآن يتم الغاء ذلك بعد أن ظهر فجأة هذا الخطر الكبير المتعلق بالسمعة».
وفي بعض الأحيان تتجنب النساء عقد اجتماعات منفردة مع الرجال الذين يشعرونهن بعدم الارتياح أو لديهم سمعة سيئة، كما حدث عندما جلبت المديرات التنفيذيات الزميلات الى اجتماعات مع وينشتاين.
بطبيعة الحال، لا يحدث هذا في كل مكان عمل، وهو أمر يعتمد جزئيا على ثقافة الشركة وثقة الموظفين في الموارد البشرية للتعامل بشكل مناسب مع التحرّش. ففي مقابلات أجريت مع أشخاص في مختلف الصناعات، قال كثيرون ان التفاعل مع أفراد الجنس الآخر لم يكن موضوعا ذا أهمية تذكر. وكان الناس أكثر حذرا في الوظائف التي تركز على المظهر، كما هي الحال مع بعض المطاعم أو شبكات التلفزيون، وفي الصناعات التي يهيمن عليها الرجال مثل التمويل، وفي الوظائف التي تنطوي على اختلالات صارخة في السلطة والنفوذ، مثل الأطباء أو المستثمرين.
يقول الدكتور موكوند كوماندوري (50 عاما) وهو جرّاح عظام إنه يتجنب أن يكون وحده مع زميلاته من الاناث، خاصة تلك التي لا يعرفها جيدا، أو ممن يعملن في فريقه.
على المحك
ويضيف: «أنا حذر جدا حيال هذا الأمر، لأن رزقي ولقمة عيشي على المحك. اذا قال شخص ما في المستشفى إن لديك اتصالا غير لائق مع هذه المرأة، يتم توقيفك عن العمل من أجل التحقيق لتنتهي بذلك حياتك. وهي وصمة ستلازمك طوال حياتك».
وذكر قصة زميل له في المستشفى فقد وظيفته بسبب مزاعم التحرش. «لقد أوجد هذا الشخص جواً في غاية الحساسية لكل طبيب آخر. نحن نقف أساسا على بعد 10 أقدام من كل شخص نعرفه».
حتى قبل الاهتمام الأخير بالتحرش، لم يكن تفادي الاجتماعات المنفردة مع الزملاء من الجنس الآخر أمراً غير شائع. ويعني ذلك عدم المشاركة في سيارات الأجرة والسفر وتناول الغداء واللقاءات لشرب القهوة وعدم الاجتماع وراء الأبواب المغلقة.
ويقول ما يقرب من ثلثي الرجال والنساء إن الناس يجب أن يتوخّوا مزيدا من الحذر حيال التعاطي مع الزملاء من الجنس الآخر في العمل. ويعتقد حوالي الربع أن اجتماعات العمل الخاصة مع الزملاء من الجنس الآخر غير مناسبة، وفقاً لاستطلاع للرأي، أجرته صحيفة مورنينغ كونسالت لمصلحة صحيفة نيويورك تايمز في مايو.
وقد وجد البحث أن تأثير ذلك في مهن النساء أمر قابل للقياس.
فالنساء اللواتي لديهن من يرعاهن غالبا ما يحصلن على مهام صعبة وزيادات في الأجر، ويقلن إنهن راضيات عن تقدمهن المهني، وفقا للبيانات الصادرة عن مركز تالنت انوفيشن. غير ان %64 من كبار المسؤولين من الرجال و%50 من المبتدئات يتجنّبون التفاعلات المنفردة، بسبب خطر الإشاعات حول دوافعهم، وفقا لمسح أجراه المركز.
كما يعطي الرعاة الجيدون ردود فعل صريحة وصعبة، والنساء أقل احتمالا من الرجال لتلقيها، وفق دراسة ماكينزي ولين ان.
ميغان كيتشوم (37 عاما)، حصلت مؤخرا على ترقية لمنصب مديرة المبيعات في لينكيدين. وهي وظيفة تتطلب مهارات جديدة، وتقول إنها حصلت عليها بسبب الثقة والصداقة التي بنتها مع رؤسائها في فريق العمل، الذين كانوا جميعا من الرجال.
أحدهم كان يدعوها بانتظام الى الذهاب للمشي وشرب القهوة. وتقول «الثقة بنيت من خلال العلاقة الحميمة وفهم الآخرين وتقاسم القيم. ويأتي هذا الأمر من التفاعلات المباشرة وليس من خلال الاجتماعات الرسمية في قاعة المؤتمرات».
تمييز
وتؤثر هذا العملية في الأقليات العرقية والأقليات الأخرى في مكان العمل أيضا. وتقول هيوليت «الرعاية هي في الغالب نسخة مصغرة من الراعي، فالرجل الأبيض يتولي عادة رعاية الشباب البيض الأصغر سنا». من خلال التعرف على أشخاص مختلفين عنهم، يمكن للقادة تجنّب التمييز والتفضيل، والذي يمكن أن يحدث اذا لم تتم الرعاية بشكل جيد والذي قد يضر بالروح المعنوية للشركة.
أحد الطرق لتشجيع هذه العلاقات هو أن يكون هناك عدد أكبر من التنوع في المناصب العليا في الشركة. في المقابلات التى أجريت لاستطلاع الآراء، قالت النساء في الشركات التي تضم العديد من المديرات التنفيذيات من النساء إن العلاقات الفردية لم تكن تشكل أبدا مشكلة بالنسبة اليهن.
وهناك طريقة أخرى هي أن تدعم الشركات صراحة اجتماعات بناء وتمتين العلاقات. بعض الشركات، على سبيل المثال، حددت مطعما معيّنا، حيث يأخذ كبار المسؤولين الموظفين المبتدئين والصغار الذين يرعونهم لتناول الافطار أو الغداء. وتقول لورا شيربين، مديرة البحوث في مركز تالنت أونفيشن «بمجرد أن نراه يحدث في الأماكن العامة، يصبح تاليا هو القاعدة والوضع الطبيعي».
وتضيف «اذا كنت لا تريد أن يحكم عليك الناس عند الخروج مع أحد كبار المسؤولين، فلا يجوز أن تكون ممن يحكم على الآخرين».
ويقول الباحثون إن من العوامل المساعدة أيضا هو أن يتحدّث المسؤولون عن أسرهم ويقوموا بتعريف صغار الموظفين الى زوجاتهم أو دعوتهم الى منازلهم.