مأدبة فنية فاخرة إحتفاءًا بالملحن الكويتي أنور عبدالله في جدة
رامي أمين – جدة
المسافة الممتدة مابين أحد الفنادق المطلة على الواجهة البحرية بمدينة جدة ، وحتى صالون أطياف الفني غير بعيدة ، فبضع دقائق معدودة كانت كافية لقطعها بصحبة الموسيقار القدير أنور عبدالله، أحد رموز الأغنية الكويتية، وصاحب الشخصية المكرمة في مهرجان الموسيقى الدولي بدورته الثانية والعشرين، والقادم للتو على متن طائرته من “دبي” وكانت زيارته سريعة للساحل الغربي، لاتتعدى ثلاثة أيام ، ولعل في أول المحطات كان حريصاً على لقاء الأسرة الفنية بجدة ، والذين دعو إلى الإحتفاء به، في مأدبة فنية سعودية فاخرة .
ونحن في قطار سيرنا ، كنت مستمتعاً بصحبة الأستاذ أنور عبدالله وبتلك اللقية الربانية التي جاءتني ، أعني هذا التباسط والدردشة مع رجل صاغ وجدانات الناس بألحانه وموسيقاه على إمتداد عقود وعهود طويلة .
وفي أثناء دائرة تحركنا كان ينظر بعينيه على الطرقات وواجهات المحلات، وأثرنا الحديث عن ذكرياته التي تداعب مخيلته ومازالت تتطاير في هواء جدة ، التي قام بزيارتها في أواخر الثمانينيات الميلادية، برفقة صديقه الشخصي ورفيق دربه الصوت الجريح الأستاذ عبدالكريم عبدالقادر .
وفي أعقاب أحاديثنا الحرة ودردشاتنا المفتوحة، عن ألحانه وموسيقاه ، عاجلني الأستاذ أنور ، بسؤال مباغت : ما الأغاني التي تحبها يارامي ؟
رحت أطلق عقيرتي بالغناء “أجر الصوت من جرحٍ براني ..آلا والجرح أكبر من زماني”، وقلت من فوري: ” أجر الصوت ” ، ” محال” ، “غيب وأنا غيب” ، ” الجرح الخطير” ، “صوب دار الخل” الأغاني التي أنبعثت من حنجرة الفنان القدير عبدالكريم عبدالقادر ” ويكفيك إنك شفتها” التي صدَح بها الفنان القدير محمد عبده، والكثير من أعمالك على سبيل المثال لا الحصر مع الراحلة رباب، عبدالله الرويشد، نوال الكويتية ، راشد الماجد، عبدالمجيد عبدالله ، خالد عبدالرحمن ، سميرة سعيد، وأصالة ، وعندما كان الإكتشاف قد حقق مساره مع الفنانة أحلام، وحفر شخصيتها القادمة وتقديمك لها كنجمة في حضن سماء الساحة الفنية الخليجية عام ١٩٩٥م، عبر مجموعة أعمال غنائية منها : “قول عني ماتقول” ، “وش ذكرك” ، “يجي منك أكثر”،” تناظر الساعة” ، ووجدتني أقول له : بأني شديد الإعجاب بطريقته في الألحان التي تهتم بالتعبير في الغناء عن صور حياتية نعيشها وتداعب قلوبنا ومشاعرنا الرقيقة ،حيث اللغة التي يفهمها جميع البشر ، تخرج منهم لتعبر عنهم ، فهتف وقال : الله .
بالرغم أني لم أكن أسجل معه حواراً صحفياً بالمعنى الحرفي للمفردة ، كنت أريد أن ألمس إرادته الذاتيه وعاجلته بسؤال مفاده : بعد كل هذا الركض على حائط الإبداع وإتقان أساليب العمل الموسيقي على إمتداد عقود طويلة، من الذي ترغب أن يرتدي ألحانك وموسيقاك في وقتنا الراهن، وبعد طيلة هذا المشوار ؟
عاجلني بالإجابة لحنت تقريباً لجميع المطربين ، ولكن لم يحالفني الحظ بالتعاون مع الراحل أبو بكر سالم يرحمه الله ، فهو الوحيد الذي لم أعمل معه ، وبما أني في جدة أوجه التحية إلى الفنان عبدالله رشاد ، لأنني أحبه كثيراً ، وهو صديق عزيز على قلبي ولم ألتقي به منذ مدة طويلة ، وأتمنى أن يجمعنا به عمل فني عما قريب .
ثم سألته : بما أننا اليوم في جدة لو كان بيننا صوت الأرض الراحل طلال مداح يرحمه الله بماذا كنت ستخبره ؟
سرح كمن يتذكر شيئاً وتنهد قليلاً ، فأجابني ببطء، الراحل طلال مداح يرحمه الله ، مدرسة تأسست وأسست معها ذائقة تعدت المحلية إلى العربية لعمقها ، تلك المدرسة التي أستطاعت بحق أن تؤسس لأجيال متتابعة ، صوت الأرض لم يأفل ولن يأفل، هو حيّ في كل واحد فينا طالما نحن أحياء، وكنت سأخبره بأنه أستاذنا ولا زلنا ننهل من فنه إلى يومنا هذا .
وفي أحدى مناطق حواري سألته عن خطواته الأولى مع الموسيقار د. عبدالرب إدريس ، وحجم العلاقة الشخصية بينهما ؟
أجابني حين قال لي : تعددت تجليات علاقتي بالموسيقار د. عبدالرب إدريس، التي تمت على مرحلتين أحدهما : قبل الإلتحاق بالمعهد ، والأخرى، بعد الإنضمام للمعهد العالي للفنون الموسيقية بالكويت ، فقد كان أستاذاً قديراً ، وكنت تلميذاً طيعاً له، وبعد أن تخرجت من المعهد بسنوات كانت كفيلة بإعداد مساري الأكاديمي، أصبحنا صديقين ونلتقي ، في مرات عديدة بالمحافل والإستديوهات الفنية ، وفي الواقع د. عبدالرب إدريس أسم ذا أهمية وثقل كبير في ساحتنا الخليجية والعربية ، أوجه له التحية والتقدير الكبير .
هنا توقف قطار سيرنا حيث صالون أطياف الفني بضاحية أبحر ، الذي كان وجهة الجميع ، وكان يتقدم المرحبين م. محمد الأسطى الذي دعى لهذه المأدبة الفنية الفاخرة، ويرافقه الشاعر عجب أبو حنيفة، وبعد إكتمال عقد اللقاء الذي بدأ في الساعة التاسعة مساءاً من يوم الثلاثاء ٣٠ يوليو الماضي بحضور دلال الدليمي التي تمتلك موهبة تؤهلها لأن تكون نجمة في المستقبل، والتي أتت خصيصاً من بلدها الكويت للمشاركة في هذا الإحتفاء ، وسط العديد من النجوم الذين لمعت أسماؤهم في الأدب والفن والموسيقى والصحافة والإعلام فمنهم من الأساتذة الكبار والعبقريات الموسيقية النادرة : عازف القانون مدني عبادي ، والملحن والعازف على الأورج عبدالرحمن باحمدين ، والموسيقار محمد المغيص ، والفنان حسن أسكندراني.
ومدير جمعية الثقافة والفنون الأسبق د. عمر الجاسر ، والمخرج الإذاعي حسين أسكندراني ، والمخرج بإذاعة جدة محمود إدريس .
والشاعرين الغنائيين : ضياء خوجة ، وعبدالله البركاتي .
ومن الأساتذة والزملاء : علي فقندش ، أحمد مكي ، فيصل الزيات ، سامر العوفي ، تركي العمري، المصمم أيمن الرابغي، محمد أبو منذر ، عبيد الزهراني ،
تركي الحربي ، د. أنمار الأسطى .
وفنانون شباب منهم أسامة فقيه ، نواف الجبرتي
ومن الفنانات أريج وشقيقتها ريم أبنتي الفنان والملحن الراحل عبدالله محمد ، وريانة العود، ولفيف من المحبين والمريدين .
وبدأ الحديث في الصالون عن الحالة الصحية للموسيقار الأستاذ غازي علي، والتي شهدت تحسناً كبيراً في الأيام الأخيرة .
وأيضاً عن إستعادة صورة العودة إلى مثل هذه الأمسيات الخاصة التي تكون مناسبة لهذا النوع من الحوار الفني، وتبادل الآراء التي تفتح ينبوعاً من عقد العلاقات النوعية التي تصب في صالح صناعة الأغنية، كما كان يحدث في السابق .
وشكر الموسيقار الأستاذ أنور عبدالله، الجميع على هذه الدعوة الطيبة والإحتفاء به ، والذي لا يعبر إلا عن صدق المشاعر من أشقائه في السعودية الحبيبة تجاه أشقائهم في الكويت .
وراح الأستاذ مدني عبادي يلعب على آلته القانون سيدة آلات التخت الشرقي ويعزف أنواعاً من التقاسيم على مقامات كلاسيكية ، وأسر طريقته في العزف جعلت الأستاذ أنور ينهض من مقعده ، وسرعان ما راح ليطبع قُبلةٌ على جبينه ،حيث كان الأستاذ عبدالرحمن باحمدين على آلة الأورج ، لينضم إليهما ضابط الإيقاع حسين أسكندراني في مزج موسيقي خلق تناغم دلالي بين الآلات ، وأطل الفنان حسن أسكندراني وهو يحمل آلة العود ويتغنى للفنان الراحل سعد إبراهيم ” أرسل سلامي” ، ثم تلتها أغنية “سبحانه وقدروا عليك” التي أقترنت ببدايات الفنان والملحن الراحل فوزي محسون ، ثم راح يرتجل من قالب الموّال الحجازي ” يامليح الحُلى وحلو التّثنّي “، ليضاعف من طرب مستمعيه .
وتقدم الفنان الشاب أسامة فقيه بموّال
” يا عيون النرجسيِ” من الفلكلور ، وكان ينتقل بكل فن وإحترافية من مقام لمقام آخر.
وهنا أحتضن المحتفى به أستاذ أنور عبدالله آلة عوده بغرام إيروتيكي وتغنى برائعته المهمة ” أجر الصوت ” التي لحنها للفنان القدير عبدالكريم عبدالقادر ، ليزداد تفاعله مع الأغنية ويطلق آهات تردد بين الحضور ، ثم تلتها أغنية من طراز ” رد الزيارة” التي أقترنت أيضاً بالفنان عبدالكريم عبدالقادر ولحنها الموسيقار د. عبدالرب إدريس .
ليأتي دور الموهبة التي طال إنتظارها ، دلال الدليمي، حيث تعد آخر اكتشافات الأستاذ أنور عبدالله، والتي تغنت بأغنية ” وش ذكرك ” التي أقترنت بالفنانة أحلام، على أوتار عود ملحنها الأستاذ أنور عبدالله ، ثم تجلت في رائعة ” دارت الأيام” لكوكب الشرق والغرب السيدة أم كلثوم، وكان يرافقها على آلة عوده أستاذها أنور عبدالله ، لتنتزع بهذا الأداء إعجاب المستمعين إليها ، والمقدرين لموهبتها.
وشارك الموسيقار محمد المغيص بعزفه وغناه وسط تصفيق الحضور، بأغنية ” في خاطري شي” التي لحنها لصوت الأرض الراحل طلال مداح ، ” وبعد ذلك غنى “طالبك ياسيدي السماح” من ألحان المغيص نفسه، والتي أقترنت بالفنان القدير محمد عمر .
وهنا كان واضح على الأستاذ أنور، أنه ينم عن إجهاد وهو يحاول أن يخفي هذا الإجهاد بإبتسامة خاصة، وصار قراره إنه ينوي المغادرة، وذهب يمُدّ يَدَهُ مصافحاً الجميع وتوديعهم وشكرهم مرة أخرى على تلقي الدعوة التي كان لابد من تلبيتها ، وهكذا عدنا إلى الفندق الذي كان يستدرجه إلى شاطئه الجميل.
ومضت تلك الأمسية ليتغني بعد ذلك الفنان الشاب نواف الجبرتي بأغنية الفنان القدير محمد عبده ” خصام الوقت”، وتغنت الفنانة الشابة ريم عبدالله محمد، من ألحان والداها للراحل الأستاذ طلال مداح “سويعات الأصيل” ، و”أما براوة” من روائع الموسيقار محمد الموجي .
وهكذا وضعت نهاية المشهد الأخير من أمسية الإحتفاء بالموسيقار أنور عبدالله.