المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

عندما يُزفّ الضوء إلى نوره

محمد تهامي
لم يكن ذلك المساء مجرد احتفال، بل كان انبثاقًا للضوء من قلب الليل، لحظة خالدة تتخطى الزمن، إذ اجتمعت الأرواح في قاعة احتفالات مسجد حسن شربتلي، مساء الجمعة 9 شعبان 1446 ه ، 06 فبراير 2025 م، لا لتشهد زفافًا فقط، بل لتتنفس الحب في أنقى صوره. كان الهواء مشبعًا برائحة العود والياسمين، والأضواء تنعكس على الوجوه المتلهفة، كأنما كل تفصيلة من تفاصيل المكان تهمس بقصة طويلة بدأت قبل هذا اليوم بسنوات، وربما قبل الميلاد نفسه.

طارق، العريس الذي يقف الآن في قلب هذه الدائرة المضيئة، بدا كمن يعبر جسرًا بين عالمين، يودّع عالمه القديم ليعانق غدًا مشرقًا، تتجسد ملامحه في تلك العروس التي تقف على الضفة الأخرى من المساء، هاجر، بوجهها الذي يحمل مزيجًا من هدوء البحر وسرّه العميق. كان اللقاء بينهما يشبه لقاء النهر بالبحر، كلٌّ منهما كان قدر الآخر، وكلاهما عرف أن هذا المساء لم يكن سوى خطوة أولى في طريق لا يعرف سوى الحب.

الضحكات تملأ المكان، تصافح الأرواح قبل أن تصافح الأيدي، والتهاني تتدفق كما لو أن كل كلمة نطقت بها الأفواه كانت تحمل في طياتها دعوة من القلب، أمنية معلقة في الهواء بأن يكون هذا الارتباط نجمًا لا يأفل أبدًا. العمّات والخالات يجلسن في ركن يتهامسن بحنين، الأصدقاء يتبادلون المزاح، والآباء ينظرون إلى أبنائهم بشيء يشبه الرضا الممزوج بالدهشة، كأنهم يدركون للحظة أن الزمن يمضي أسرع مما تخيلوا، وأن الأطفال الذين كانوا بالأمس يركضون في ساحات البيوت، ها هم اليوم يصنعون بيوتهم الخاصة.
على طاولة بعيدة قليلًا عن الصخب، جلس رجل في الستينيات من عمره، يراقب المشهد بعينين غارقتين في التأمل. لم يكن من أهل العروسين، ولم يعرفه كثيرون، لكن ملامحه حملت شيئًا من الغموض الذي يسبق العواصف، كان يعبث بخاتم قديم في يده، ويمرر أصابعه على سطحه كأنه يبحث عن نقش نسي معناه. وحين التقت عيناه بعيني طارق، للحظة واحدة فقط، كان الأمر أشبه بانفجار صامت، لم يعرف العريس لماذا شعر أن تلك النظرة حملت سرًا قديمًا، لكنه سرعان ما تلاشى بين دفء المناسبة.
في وسط الاحتفال، انطلق صوت زغرودة طويلة، معلنًا بداية رقصة كان ينتظرها الجميع، رقصة لم تكن مجرد خطوات تتناغم مع الموسيقى، بل كانت احتفالًا بالجذور، بتراث لا يزال يرقص في دماء من حملوه عبر الأجيال. وقف طارق وهاجر وسط الدائرة، يداهما متشابكتان، العيون كلها معلقة بهما، كأنهما الشمس والقمر يلتقيان للمرة الأولى. بدأ الإيقاع يعلو، وبدأت الأرواح تطوف حولهما كما تطوف الكواكب حول النجوم، وفي تلك اللحظة، شعر كل من في القاعة أن السعادة ليست شيئًا يُقال، بل شيء يُعاش بكل ذرة من الجسد والروح.

لكنّ الزمن، ذلك الكائن الذي لا يمكن التنبؤ به، قرر أن يصنع مفاجأته الخاصة. وسط احتدام الفرح، وبينما كانت الموسيقى تصل إلى ذروتها، دوى رنين هاتف في أحد الأركان، كان رنينًا غريبًا، كأنه قادم من زمن آخر. التقطه أحد الأقارب، نظر إلى الرقم، ثم شحب وجهه كأنما قرأ رسالة من الماضي ذاته. لم يكن هذا الاتصال عاديًا، كان يحمل شيئًا غامضًا، شيئًا جعل الرجل يهمس في أذن الأب، ثم ينتقل الهمس إلى طارق، الذي لم يلبث أن تحولت ملامحه من فرحة العريس إلى حيرة الرجل الذي وجد نفسه في منتصف لغز لم يفكر يومًا في حله.

ترك طارق يد هاجر برفق، اعتذر بعينيه قبل شفتيه، ثم انسحب بهدوء، بينما نظراتها تتابعه وكأنها خيط يمتد بينهما، لا تريد أن ينقطع. خرج من القاعة، وقف في الخارج، تنفس بعمق، ثم ضغط زر الرد. الصوت على الطرف الآخر لم يكن مألوفًا، لكنه حمل نبرة كأنها خرجت من قاع ذاكرة بعيدة.
“لقد حان الوقت، يجب أن تأتي الآن.”
لم يكن في المكالمة تفاصيل أكثر، لكنها كانت تحمل يقينًا لا يُناقش. للحظة، كان يمكنه أن يعود، أن يتجاهل الأمر، أن يعود إلى قاعته، لعروسه، لعائلته، لكن شيئًا ما في داخله قال له إن هذه الليلة لم تُكتب لتكون مجرد ليلة زفاف. قرر أن يذهب.

على بعد شوارع قليلة من القاعة، وجد نفسه أمام باب خشبي قديم، لم يكن يعرفه لكنه شعر أنه يعرفه. طرقه ثلاث مرات، كما أُمر، فُتح الباب، ووجد نفسه أمام الرجل الذي كان يراقبه في الحفل. في الداخل، كانت الغرفة مضاءة بنور خافت، وفي زاوية منها، كان هناك صندوق صغير، يبدو كأنه يعود لعصور غابرة.

“افتحه.”
مدّ طارق يده، رفع الغطاء، ووجد داخله رسالة، مكتوبة بخط يد قديم، لكنها تحمل اسمه، وتحمل تاريخ يوم زفافه. فتحها بيدين مرتجفتين، قرأ الكلمات الأولى، فتوقف قلبه للحظة.

“طارق، حين تقرأ هذه الكلمات، ستكون قد وصلت إلى مفترق الطرق الذي قُدر لك أن تصل إليه. هناك طريقان أمامك: إما أن تعود إلى حيث كنت، إلى حيث الأمان والسعادة التي تنتظرك، أو أن تسلك هذا الطريق، حيث السر الذي لم يكن لك أن تعرفه لولا أن القدر قرر ذلك الليلة. اختر بعناية، لأن الخيار سيغير كل شيء.”

قرأها مرة، ثم مرة أخرى، ثم مرة ثالثة، لكنه لم يكن أقرب إلى الفهم من ذي قبل. رفع عينيه إلى الرجل، وسأله بصوت مخنوق:
“ماذا يعني هذا؟ من كتبها؟”
ابتسم الرجل ابتسامة صغيرة، كأنما انتظر هذا السؤال طويلًا، ثم قال بصوت خافت:
“أبوك.”
في تلك اللحظة، بدا أن الأرض فقدت توازنها تحت قدميه. لم يكن هذا ممكنًا. والده كان هناك، في القاعة، يحتفل به، كيف يمكن أن يكون هذا صوته؟ كيف يمكن أن يكون قد كتب رسالة قبل أن يولد ابنه، وتركها لتُفتح في يوم زفافه؟ كان العقل يرفض التصديق، لكن القلب كان يدرك أن ثمة أمرًا أكبر من الفهم يحدث هنا.

عاد إلى القاعة، كان وجهه يحمل قصة لم يكن أحد يعرفها، وعيناه تحملان أسئلة لن يجيب عنها الآن. رأى هاجر في مكانها، تنتظره، لم تسأله شيئًا، لكنها نظرت إليه كأنها تفهم كل شيء دون أن تنطق بحرف. اقترب منها، أمسك بيدها، وقال بصوت هادئ، لكنه كان يحمل قرارًا لا رجعة فيه:

“لا أعرف كل الأجوبة، لكنني أعرف شيئًا واحدًا… لا أريد أن أفتح أي أبواب وحدي بعد اليوم.”
ابتسمت، كأنها تقول له إن الأجوبة ليست مهمة، طالما أن الطريق مشترك.

وفي تلك الليلة، لم يكن العرس مجرد حفل، ولم تكن القاعة مجرد مكان، كان الزمن قد انحنى للحظة، ليفتح بابًا إلى شيء لم يكن في الحسبان، وكان العروسان، دون أن يدركا، قد بدآ رحلة لن ينساها التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى