المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

غرائب و منوعات

سيول جزيرة العرب أوقعت بأشهر مؤرخ فظنّها نهراً عظيماً

السيول التي تضرب أكثر من منطقة في المملكة العربية السعودية، في السنوات الأخيرة، أصبحت هدفاً لدارسي المناخ والطقس، ويتم التعامل معها كظاهرة شاذة عن سياق الروتين الطبيعي، باعتبار تلك السيول العارمة، ناتجة من “التغير المناخي” وظاهرة “الدفيئة” و”الاحتباس الحراري” التي يحذر منها علماء المناخ.

فيما تسجّل كتب التاريخ والأدب العربي، سيولاً في الجزيرة العربية، أشد بكثير مما تشهده المملكة العربية السعودية، الآن، وقبل كل ما يعمم بإفراط، عن دور التغير المناخي في ظواهر الطبيعة الحالية!

وأصبحت كلمة (السيل) مفردة أساسية في ذاكرة ورواية أي عربي، بسبب اقتران حياة العرب بتلك الظاهرة، على عنفها، وعلى ما خلّفته من تدمير وخراب، وصل إلى البيت الحرام، في بعض السنوات، وضرب مجمل منطقة مكة المكرّمة، أحياناً.

وأجمع إخباريون عرب قدامى، على أن السيول العنيفة التي كانت تضرب كثيراً من المناطق في قلب الجزيرة العربية، ومن قبل الدعوة الإسلامية، كانت تنزل بها خسائر فادحة، ومنها مكة المكرمة التي لم تعد “تصلح” لأن تكون أرضاً ذات نخيل وزرع، في فترات تاريخية معينة، كما ورد في (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للعلاّمة العراقي جواد علي.

سيل عارم ظنّه أقدم المؤرخين نهراً عظيماً

وكانت السيول التي تضرب الجزيرة العربية، قوية وعنيفة وواسعة إلى درجة أوقعت أحد أشهر وأقدم مؤرخي العالم، بخطأ جسيم، وهو هيرودوتس، عندما زعم وجود نهر عظيم في جزيرة العرب سمّاه (قوريس). فيما الحقيقة أن الجزيرة العربية لم يكن فيها نهر عظيم كالنيل والفرات.

ويعلّل المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، سبب الخطأ الذي وقع فيه أشهر مؤرخي التاريخ العالمي القديم، بأن ثمة من شاهد السيول التي تصب في البحر الأحمر، فاعتقد أنها نهر عظيم، فنقل للمؤرخ ما وهم به.

ما يؤكد حجم السيول العارمة التي كانت تضرب الجزيرة العربية منذ قديم الزمن، وقبل ظاهرة الاحتباس الحراري والدفيئة والتغير المناخي.

وسجّل الإخباريون هلاك أناس من السيول في مختلف أرجاء الجزيرة العربية، وتم العثور على آثار سدود قديمة في عدة نواح من الحجاز ونجد -يؤكد جواد علي في مفصّله- بنيت في مواضع تصلح لمنع السيول من الذهاب عبثاً، كما قال مؤكداً أن السيول هددت حتى (يثرب) بالغرق، مع أنها ليست في وادٍ.

فضلاً من أن السد الأشهر عند عرب الجنوب، كان سد مأرب الذي بني من أجل السيطرة على الأمطار والسيول ودرءاً لمخاطرها.

بلغ السيل الزُبى!

ووصف السيل بأوصاف الشدة والقوة والجَرف والحَتّ والهدم، لدى العرب.

ذلك أن السيل رفيق سكناهم ومغيّرها، ومهدد معيشتهم، فاكتسب السيل، عندهم، ألقاباً شتى أشهرها (العرِم) وهو السيل الشديد الذي لا يطاق دفعه، وكذلك (الأتيّ) وسمي السيل بالأعمى، نظراً إلى حركته المبعثرة العشوائية، وكان (النؤي) هو الحاجز الذي يصنع حول مكان، لمنع وصول ماء السيل.

وقيل إن الغدير، سمي غديراً، لأن السيل غادره، وتركه على حاله، فبقي ماءً ساكناً ومقصداً لمحتاجيه، بحسب ما ورد في “خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب” لعبد القادر بن عمر البغدادي (1030-1093) للهجرة.

وهو ما يتفق مع قول للمتنبي: “فصيّر سَيْلُه بلدي غديراً”.

وتكاد تكون كلمة (السيل) كما لو أنها ظل العربي لا تفارقه، بسبب تلازم وجودهما معاً، فأصبح السيل اسماً للبشر ينادون به، ودخل السيل في المثل العربي، وأحصى منه (مجمع الأمثال) لأحمد بن إبراهيم الميداني المتوفى سنة 518 للهجرة، قرابة خمسين مثلاً مستمداً من لفظ السيل: (إنما أخشى سيل تلعتي) وأشهرها: (بلغ السيل الزبى) و(سيل به وهو لا يدري) و(أطغى ـ وأغشم وأهول – من السيل) و(كالسيل تحت الدمن) و(من يردّ السيل على أدراجه) و(اضطره السيل إلى معطشة).

ما يؤكد تلازم حياة العرب والسيول، حتى أصبحت جزءاً أصيلاً من حكمة منقولة شفوية ومكتوبة وأدبية، وذلك كله قبل ظاهرة الدفيئة والتغير المناخي، بقرون.

ووصف السيل في معلقة امرئ القيس، بالقوة والدفع: “..كجلمود صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ”.

وفي العجز السالف، إشارة واضحة إلى اختبار قوة السيل التي تنقل المياه من مكان إلى آخر، حتى لتسقط وتندفع من أعلى مكان إلى أسفل، مدعومة بقوة الجذب الأرضي.

وورد وصف للسيل والمطر، في ذات معلّقة امرئ القيس التي مطلعها “قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل”.

ويصف امرؤ القيس السيلَ وتأثيره كما يفعل اليماني المحمّل، كدلالة على قدرة القطع والحفر والفصل التي يتضمنها السيل العارم.

ووصف لبيد بن ربيعة السيل بالقلم، من حيث مقدرته على ترك الأثر والرسم، في أحد ألطف التشابيه في اللغة العربية: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبرٌ تجدّ متونها أقلامها.

سيول جزيرة العرب لا يشاهد مثلها في بلاد أخرى

وذكر العلامة السعودي اللبناني فؤاد حمزة، في كتابه الهام الذي كان أحد مصادر (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) ومعروف باسم (قلب جزيرة العرب) وصدر في ثلاثينيات القرن الماضي، ويعتبر أحد أهم المصادر العربية المعاصرة عن المملكة العربية السعودية، نظراً لدراسته المكان أنثروبولوجياً وجغرافياً وأدبياً وتاريخياً واجتماعياً، أن السيول كانت “تخرّب البلاد وتقلع الأشجار وتجرف كل ما يقف في سبيلها من عمار وشجر وحيوان!”.

ويذهب إلى أن البلاد بكاملها كانت تغمر بالماء، بعد هطول المطر، بسبب “غيث مدرار ينهمر حين نزوله بقوة وغزارة فائقة للتصور!”.

ونظراً إلى طبيعة السيول الجارفة التي تضرب المملكة، فقد وصف فؤاد حمزة سيولها بأنها “لا يشاهد مثلها في البلاد الأخرى”.

وقال في أحد المواضع إن شدة الهطل المطري المفضي إلى تشكّل السيول العارمة، تحول المكان إلى “بحيرة واسعة الأرجاء، أو كنهر مزبد متلاطم”.

وقد يكون هذا التشبيه من العلاّمة الرفيع، هو ما تمّ تصوّره سابقاً، وأوقع بـ”مؤرخ العالم” هيرودوتس، فتوهم وجود نهر عظيم في الجزيرة العربية وأطلق عليه اسماً، أو هكذا نقل إليه بعض الذين رأوا قوة السيل، فوهموه نهراً عظيماً، وكان مجرد انجراف هائل وواسع للسيول إذ تجتمع وتتحد بسيل واحد، فينطلق نحو مصبّه في البحر، أو عبر الوديان، فيظنه الرائي نهراً عظيماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى