المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

ذكرى الصبا وعطر المائدة

محمد تهامي
في قلب الكويت، حيث تلتقي الأرض الطيبة بالقلوب الوفية، تتجسد أجمل معاني الإخوة والمحبة في لقاءات لم تكن مجرد جمعٍ حول طاولة الطعام، بل كانت رحلة في أعماق الذكريات، وشهادة على القيم الراسخة التي تربوا عليها في بلدتهم الأصلية ههيا، هناك، حيث الطفولة كانت نزهة في شوارعها الضيقة، وبين أزقةٍ تشبع بأصوات الضحكات والنكات، ترسخت أواصر هذه الصحبة التي لا يُقدّر لها إلا أن تكون مثالًا على التضحية والإيثار.
في كل جمعة، تتجدد تلك اللمسات الحانية التي يسكبها الزمن على قلب كل فرد منهم، كان اللقاء في تلك الأيام، ليس مجرد استراحة من ضغوط العمل، بل كان بمثابة عيدٍ صغير يُنظم في خيمةٍ من المحبة والطمأنينة، مع كل اقتراب عصر، كان الموعد المنتظر يتجدد على طاولةٍ عامرة، تضج بأطباق تحمل في كل مكوناتها جزءًا من ذكرياتهم العتيقة، وأملًا في غدٍ أفضل، وفي كل طبق يعبق عبق من الماضي، تلك الذكريات الطيبة التي صنعوها معًا.
عبدالله، الذي يتفنن في إضفاء لمسة سحرية على كل طبق محشي وبط يقدمه، لم يكن المحشي والبط مجرد طعام، بل هو لغة تُحاكي الذكريات العتيقة، سيدة الأطباق التي تجمع بين المذاق والفن مكتملة الأركان، حيث تتناغم المكونات بدقة واحترافية، وكأنها سيمفونية يخرجها من بين يديه، يضيف إليها كل يوم نكهة جديدة، كل طبق يروي حكاية، أما علي، فهو الرائد في عالم الاستثناءات والحلويات، يبتكر جديدًا مع كل لقاء، ويُذهل الجميع بكل صنف جديد يقدمه، فبين أصناف الأطعمة والحلويات، ينسج روايات فنية لا تُنسى، فيطوف بخلطاته بين الأجيال المختلفة، متجددًا في ابتكاراته التي تجعل كل لقمة تذكره، وكأنها جزء من الإرث الذي يحمل عبق بلدتهم وأجدادهم.
أحمد، الأرز والمصقعة صديقه الدائم، لم يكن يقدم طعامًا فقط، بل يقدمه بتقنية ودقة عالية، يتفوق على من حوله في فنون التحضير، فطبق الأرز وصينية المصقعة عنده لهما قصة، وتاريخ، وطريقة لا يُمكن تقليدها، والدعاء موصول له في رحلته العلاجية بأن يجمع الله له تمام الصحة وجميل العافية، أما مصطفى، يمثل مدرسة في فنون اللحوم، لا يتوقف عند تقليد الوصفات، بل يتجاوزها ليمنح خلطات من الحب والكرم، ويقدم الطعام لا كمن يُقدمه للآخرين، بل كمن يُقدمه لعائلة تتجسد فيها معاني التضحية والتفاهم، لحومه مذاقًا من زمنٍ بعيد، لكنها كانت تحاكي الحاضر بكثير من الإبداع، إذ كل وجبة بمثابة رسالة محبة ودفء، ويأتي فريح، الشريك الأمثل في هذه الرحلة، وكأن وجوده بجانب علي ومصطفى يجعل كل شيء يبدو أسهل وأمتع من خلال الدعم اللوجستي مع صبرهما عليه، وفي نفس الوقت لا يمكن تجاهل دوره الكبير في صنع الطواجن، يتقن فنها في أبهى صورها، دائمًا يدهشنا بابتكاراته وأسرار الطواجن في كُلٍّ منها عبق التاريخ وحكمة ومهارة الأمهات، وأما يوسف، هذا الصوت الهادئ الذي يضفي السلام والراحة على المائدة، يجسد بسلوكه ودعمه رقي الأخلاق، أما صلاح، دوره مقتصرًا على التشجيع بروحٍ من الحماس والتقدير، يضيف كلمات من الدعم هنا وهناك، ويحرص على أن تبقى الأجواء مفعمة بالود والتآلف، ليكون شاهدًا على جمال هذا الجمع ودفء اللحظات.
تلك اللقاءات يومًا بعد يوم تتحول إلى أكثر من مجرد تجمع للأطعمة، إنها إعادة بناء لذكريات الطفولة، واكتشاف لمفردات القيم والمبادئ التي نشؤوا عليها، وتعزز فيهم الأخلاقيات التي تربوا عليها في مدارس ههيا وبين أهلهم وأجدادهم، كانت تلك الوجبات فرصة لتجديد أواصر الصداقة والإخوة، وتثبيت قيم التعاون والتضحية في ظل تحديات الحياة اليومية، وفي كل لقاء، الجميع يعبر عن قول ابن خلدون: “صلاح المرء من صلاح صحبته، فالرفقة الصالحة هي عماد العمران البشري”. تلك الحكمة التي تنبثق من صميم قلوبهم، لتثبت أن ما يجمعهم ليس مجرد الطعام، بل هو إرث مشترك من المحبة، والمبادئ التي لا تُعكرها الأيام ولا يُغطيها الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى