«حياة كاملة».. ساق تعرج باتجاه الحب

تبدو رواية «حياة كاملة» استئنافا لنوع من السرد الرصين الذي يتناول حياة الفرد العادي، خاصة أولئك الفلاحين البسطاء الذين يمضون أوقاتا طويلة في صمت، لا يكادون يحسنون التعبير عن مشاعرهم، تتوافر نفوسهم على عناد هادئ مصدره إرادة البقاء، بعيدا عن صور الصراع الفج أو رغبات النجاح المتأرجحة بعنف والمميزة لأهل المدن.
خشونة وهشاشة
تدور الرواية القصيرة، التي لا تخلو من شاعرية مقتصدة غير مفرطة، في قرية صغيرة من قرى منطقة «الألب»، حيث تجمع البيئة بين الخشونة والهشاشة، حينما تنجرف الكتل الجليدية، أو تنشق فتبتلع حيوات الناس وجهاد حياتهم في لحظة.
حياة قاسية يعيشها الطفل أندرياس إيجر في بيت أحد أقربائه من فلاحي المنطقة، بعد أن تخلت عنه أمه التي مالبثت أن فارقت الحياة. ابن سفاح مرفوض منذ البداية، يتلقى العقاب القاسي من راعيه في صمت، وفي إحدى المرات تكسر ساقه، فيعاني عرجا خفيفا طوال حياته. وبمثل بطء قدمه أثناء السير، يكون نطقه أيضا، ولسانه الذي يعثر على الكلمات بصعوبة، ولكن الكلمات عندئذ، وكموطئ القدم الثقيلة، تكون في مكانها بمثل الثقل نفسه.
ماري والكلمات
بهدوء يكتشف إيجر قوته، وفي مواجهة قصيرة مع راعيه الغليظ يتبين أنه انتقل إلى مرحلة أخرى، فيهجر البيت الأول، ويتنقل بين أعمال الخدمة كأجير يمتاز بالصلابة، والقدرة على حمل الأثقال وشق المرتفعات الوعرة.
حين تدخل ماري إلى حياة إيجر تكشف له عن ذلك الحضور الغامض للحياة ومعناها «لاحقا خلال حياته لم يستطع إيجر أن يتذكر أنه حدث وتكلم كثيرا هكذا كما حصل حينها، عند الزيارة الأولى لماري لأرضه. كانت الكلمات تتداعى منه هكذا بكل بساطة، وكان يستمع إليها ذاهلا، كيف تصطف خلف بعضها من تلقاء ذاتها تماما ليخرج منها المعنى، لم يكن يتضح حتى بالنسبة إليه إلا على نحو مفاجئ بعد أن يتلفظ بها».
يتغير شكل القرية تدريجيا تحت وقع التحديث. شركة تبدأ بأعمال الحفر في السهوب والمرتفعات الثلجية لتوصيل «التلفريك». المشاهد هنا تذكرنا بالأعمال الروائية التي صورت سطوة التصنيع وحياته القاسية وضحاياه من العمال البسطاء، ثم ما يطرأ على القرى البسيطة من تبدل. غير أن ما يمتاز به سرد روبرت زيتالر، هو البعد عن أي خطاب زاعق أو إدانة. إن قسوة الحياة تبدو مرادفة للحياة نفسها أيا كان نوعها، وطبيعة النضال من أجل البقاء لا تختلف جوهريا. وكمثل العرج الذي يصيب إيجر الصبي، ويعيش به حياته كلها دون أن ينتقص هذا من جوهره الإنساني، كذا تصبح الصدمات، الموت، فقدان عضو من الجسد، في مستوى واحد ومفاجآت الطبيعة التي تخلف انطباعات الذهول، ثم لا تلبث الحياة أن تستمر.
معنى العاهة
علامة بسيطة متخلفة من حرق قديم على شكل هلال في ظهر ماري كانت ما استبقاه إيجر في خياله. العاهة، نقطة الضعف البشري التي تصل بين الحياة والموت. في حوار دال بين إيجر وكبير العمال بعد فقدان أحدهم ذراعه في حادث يؤكد إيجر مرة تلو أخرى أن فقدان ذراع أو ساق أو حتى الأطراف كلها لا يقضي على الشخصية، لكن عند درجة معينة يداخله الشك، إلى أي حد يشكل الفقدان علامة موت وذوبان للشخص؟ ما الحدود الفاصلة بين الوجود والعدم؟
تقضي ماري وجنينها الذي لم ير النور في حادث مروع، إثر انهيار جليدي. لا يلبث إيجر أن ينخرط في الجندية مع جيش هتلر إبان الحرب العالمية الثانية. لكنه يؤسر في براري روسيا الجليدية سنوات كاملة. حياة مهينة بالغة القسوة. حين يعود إيجر إلى قريته تكون معالم القرية قد تغيرت. يعمل إيجر كدليل سياحي للراغبين في المغامرة. تمضي حياته محتفظا بحبه الوحيد، حتى التجربة التي عرضت له في علاقة عارضة بامرأة أخرى لم تلبث أن تنهار سريعا. ثمة اكتفاء عميق بين طيات هذا البدن. حب هادئ كالقناعة بحدود الحياة.
بعيداً عن المثالية
ما يميز «حياة كاملة» لروبرت زيتالر، الروائي الألماني النمساوي المولد، هو الحفاظ على عدم الوقوع في المثالية في وصفه لحياة الوحدة، أو صراع الفرد مع إمكاناته وملكاته. ابتعاد الرواية عن المبالغات كان بالتساوق مع مشروعها: أن تسير يدا بيد مع القدم العرجاء الثقيلة، لكن الثابتة، لإيجر، لكلماته المحدودة، لكن المختزنة لمعاني وأسئلة جوهرية. ظل إيجر يشعر أن لديه ملكات أوسع من حدود القرية التي يعيش فيها. هكذا قرر يوما ما في شيخوخته أن يركب الحافلة ويتجه إلى أبعد نقطة تصل إليها خارج بلدته. لكنه ما إن وصل حتى اكتشف حدوده. لم تمثل المشاهد الجديدة أي معنى بالنسبة إليه. ليس من اليسير أن نبحث عن معنى في أرض جديدة تماما. تظل دلالة الحياة مرتبطة بأرض الخبرات الأولى. بطولة إيجر، إن كان ثمة بطولة ليست في مديح العزلة، ولا في الرطانة المعتادة عن مواجهة الحياة بالتحدي. لا مشروع متصلا وراء حياة إيجر. لكن الصلة الفريدة بين إيجر ووعورة الطبيعة وقسوتها من حوله هي التي وازنت حياته كأنه في جانب منه حيوان بري. قد يبدو هذا نوعا من الحنين إلى علاقة مفقودة بين حياة المدينة المصنوعة بالكامل والجذر الإنساني الممتد في ارض أقدم بكثير، وقادرة على مفاجأة الإنسان باستمرار. ثمة مصالحة على الحافة بين الذاكرة الإنسانية والجمال الصامت والمهيب للعالم من حولها.
يذكر أن «حياة كاملة» كانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة بوكر الدولية للعام 2016. ترجمها عن الألمانية ليندا حسين وصدرت عن دار التنوير