حوار بين العربية والإنجليزية
![](https://www.shula.news/wp-content/uploads/2024/12/IMG-20241218-WA0026.jpg)
محمد تهامي خبير التطوير المؤسسي
في زاوية هادئة من مكتبة تخفي بين أرففها إرث الحضارات، علت أصوات من نقاش حميم بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية، كانتا جالستين تحت ضوء المصباح الهادئ، تتبادلان الحديث بحب واحترام، ولكن مع شيء من التنافس اللطيف.
قالت العربية بصوت يحمل عراقة الماضي ووهج الإيمان:
“أيتها الأخت الإنجليزية، نحن هنا في هذا الزمن الذي يعلو فيه صوت التقدم والسرعة، الكل يتحدث عنك، عن عالميتك، وعن كونك وسيلة العلم والجسر بين الثقافات، لكن دعيني أوضح شيئًا قبل أن نسترسل، عالميتي ليست بعدد الكلمات التي أحملها، بل بقوة الأفكار التي صغتها على مر الزمان، وبدوري في تشكيل هوية أمة تقود بمفرداتها أجيالًا نحو النور.”
ابتسمت الإنجليزية وقالت بنبرة هادئة مشبعة بالثقة:
“أعترف، يا أختاه، أن لكِ تاريخًا عظيمًا، لكن عالميتي لا تحتاج إلى شهادة، فأنا لغة تتحدث بها الشعوب في الشرق والغرب، أحمل رسالة العلم والتقنية، وأنتشر حيثما أوجد الإنسان طموحه، لكن ما الذي يجعلكِ تدّعين الاستدامة بينما أنا أعيش في كل شاشة وكتاب ودراسة؟”
رفعت العربية رأسها، وكأنها تستدعي عبق التاريخ، وقالت:
“أيتها الإنجليزية، دعيني أستشهد بأبنائك قبل أبنائي، ألم تسمعي بما قاله ويليام جونز، الذي أمضى عمره يتأمل في جمالي، وخرج بتلك العبارة الشهيرة: “اللغة العربية تفوق كل لغات الأرض في وضوحها وبيانها”؟ أو ما قاله الألماني يوهان فك: “اللغة العربية كانت لغة العلم لقرون، وهي مؤهلة للاستمرار في هذا الدور، لأنها لغة حية لا تنضب مفرداتها ولا تضعف بنيتها.” ألا ترين أن شهاداتهم دليل على عالميتي التي لا تنحصر في جغرافيا أو زمن؟”
ردت الإنجليزية، وقد بدا عليها التأمل:
“لا أنكر، لغتكِ تحمل جمالية وقداسة قل نظيرها، لكن عالميتي تكمن في كوني لغة العصر الحديث. أنا لغة التقنية والطيران، ولغة تجمع بين أطراف الأرض، كيف تنافسين ذلك، أيتها العربية؟”
ابتسمت العربية بثقة وقالت:
“العالمية ليست فقط في الانتشار، بل في الأثر. كلماتي نزلت بها رسالة إلهية ختمت الرسالات، وألهمت شعراء وأدباء عبر العصور. يكفيني أنني لغة الصلاة والعبادة لأكثر من مليار إنسان يوميًا، أنا لغة ابن رشد الذي ألهم الغرب بفلسفته، والخوارزمي الذي قدم للعالم الخوارزميات، الأساس الذي بُنيت عليه علومك التقنية، بل حتى في قصصكِ الإنجليزية الشهيرة هناك بصمتي، كما قال يوهان غوته: “اللغة العربية بحر لا حدود له، ومن يبحر فيه يخرج بلآلئ المعرفة التي لا تنضب.””
سكتت الإنجليزية للحظة، وكأنها تبحث عن إجابة. ثم قالت:
“ربما لا يمكننا تجاهل هذا، لكن لي عالميتي التي لا تخفى، فأنا لغة المستقبل، لغة الإنترنت والتواصل.”
أجابت العربية بنبرة عذبة:
“وأنا لغة الماضي والحاضر والمستقبل، ليست عالميتي في عدد الأجهزة التي أُكتب بها، بل في قدرة كلماتي على الصمود أمام العصور دون أن تفقد استقامتها، أنا من وصفني رينان قائلاً: “اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر.” أتعلمين ماذا يعني هذا؟ يعني أنني كنت، ولا أزال، لغة الكمال والانسجام.”
هنا، انخفض صوت النقاش، وعمّ المكان هدوء عميق، ثم قالت الإنجليزية:
“لكنني لا أرى في التنافس بيننا الحل، ألا ترين أن قوتنا في التعاون؟ كل منا تحمل إرثًا ومهمة، أنا أفتح أبواب العلم والتقنية، وأنتِ الجسر إلى الحكمة والروحانية.”
أومأت العربية برأسها وقالت بابتسامة:
“بل هذا ما يجب أن يكون، التكامل بيننا هو سر استدامتنا، أنا أعلم أن قوتكِ في مرونتكِ، لكنكِ تعلمين أن صلابتي هي سر خلودي، دعينا نعمل معًا، نأخذ من قوتكِ الحاضر، وتستمدي مني أصالة الماضي، معًا، نكتب مستقبلًا أكثر إنسانية، مستقبلًا تعلو فيه الكلمة البناءة وتغيب فيه الحروب اللغوية.”
في تلك اللحظة، بدا وكأن الحروف نفسها تعانقت، وكأن المكتبة احتفلت بهذا الاتفاق النادر. أدركت العربية والإنجليزية أن استدامتهما تكمن في العمل معًا لخدمة الإنسانية، وأن اللغة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لصناعة عالم أفضل، هكذا، في ظلال المكتبة، تجلى حوار عميق بين أختين، كل منهما فريدة في جمالها ودورها، لكنهما أدركتا أن قوتهما الحقيقية ليست في التنافس، بل في التكامل الذي يصنع منهما أعمدة حضارة لا تموت.