بازيل داغر: استقبلونا بـ«دولكات» الماء والشاي

الحنين إلى الأيام الخوالي، يبقى الجامع المشترك بين الرعيل الأول ومن عاش في الكويت، في عصر ما قبل النفط أو في مرحلة الاستقلال وما بعدها، في هذا اللقاء رحلة مع الذكريات ومع الماضي، نغوص في ثناياه، فنبحث عنه، مع الذين عايشوه تسجل لهم صفحات من عبق التاريخ، ففيه رسالة وعبرة للأجيال.
لقاؤنا هذا الأسبوع مع السيد بازيل غريس داغر القادم إلينا من مدينة صيدا جنوب لبنان، قال: دخلت الكويت عام 1958 هبطت الطائرة في مطار النزهة شرق الشامية تقريبا موقع ضاحية عبدالله السالم الصباح الذي افتتح كما سمعت عام 1948 بعد مطار الحزام الأخضر كانت الطائرات تهبط فوق ساحة رملية خلف بوابة البريعصي (الشعب)، وكما قالوا لنا وسمعنا أن هناك طائرة نزلت عام 1940 وكان المطار عبارة عن خيمة، وعندما وصلنا مطار النزهة شاهدنا المبنى من الجينكو (صفائح من الحديد من الزنك تتخذ لتسقيف الشبرات) ومكتوب على سقف المبنى كلمة الكويت وبالإنكليزية kuwait، ودخلنا صالة المطار استقبلنا بعض الهنود حاملين دولكات من الماء (جرة ماء) والشاي يوزعونها على القادمين، وفي عام 1962 افتتح المطار الدولي الحالي جنوب الفروانية.
أضاف: طائرتنا كانت بأربعة محركات، تابعة للخطوط الجوية اللبنانية (ليا) الطيران الدولي اللبناني أغلقت هذه الشركة، والمسافة من بيروت إلى الكويت 4 ساعات دخلنا من بوابة الجهراء التي تؤدي إلى شارع الجهراء (فهد السالم حاليا) بعد دقائق وصلنا إلى منزل أخي بالقرب من مخفر الصالحية كانت البيوت تسمى «أحواش الشيخ عبدالله الأحمد الصباح»، سكنت مع والدتي وأخي في غرفة واحدة، وبقية الغرف في الحوش مؤجرة على الآخرين (3 عوائل لبنانية)، ولكل عائلة برميل ماء للشرب والطباخ، وكان يصلنا الماء بالعربانة الخشبية، لها ثلاث عجلات وتحمل خزان ماء، ومن ثم ظهرت شاحنات (تناكر) لتوزيع المياه في البداية، تفرغ المياه بالبراميل والبرمة والحب مع التطور تفرغ الشاحنات في التوانكي (خزانات) فوق السطوح.
قال: أتذكر تنكة ماء العربانة التي ينقلها المهارة (أصولهم ترجع إلى محافظة المهرة في اليمن) سعرها بعشرين ناية بيزة، كنا نغلي الماء بالجولة (بريمز primus) مصنوعة من النحاس توقد بواسطة الكان (الكيروسين) للسباحة (الاستحمام)، لم نكن نعرف البولر السخان، وبعد ذلك سكنا النقرة عمارات الطخيم، اعتبرنا أنفسنا تمدنا، أي تطورنا، وكان إيجار البيت الأول (غرفة) بــ200 روبية والثاني بــ500 روبية، ولم نواجه صعوبات في الحصول على الماء أو الخبز ومواد أخرى لوجود مخابز وبقالات في كل المناطق.
أعمال متعددة
قال أبو جورج: دخلت الكويت وعمري 17 سنة لإكمال دراستي، ولكن تغيرت النية والفكرة، وجدت الخير وكل الخير عندما تغيرت النية، عملت في السوق المركزي (سوبر ماركت) في شارع فهد السالم لمدة 20 يوما، ثم عملت في معمل خياطة البردايات، ومن ثم عرفت أن النية غير داخلة تحت الاختيار، ولكن انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ملائم عملت في مكتب سفريات الدلول (اليطاليا) أصحابها من عائلة الدلول من فلسطين.
وعملت في محل لبيع الأصباع براتب «500 روبية» في شركة الناصرة للأصباغ كان المحل في أول شارع عبدالله المبارك بالقرب من بيت التمويل، والبنك الأهلي في أول الشارع ناحية الصرافين والمباركية، وعملت مع شركة الأطلس للأصباغ صاحبها أرمني براتب «600 روبية» والتي قامت بدورها بصبغ مستشفى الصباح، والشركة اشتراها د. ناظم الغبرا، ومن ثم اشتراها فهد المعجل (أبو فيصل) ومن عام ،1962 مازلت مع العم أبو فيصل المعجل ونقلني من الأصباغ إلى المقاولات كنت مسؤولا عن المعدات، وعملت معه بالأدوية حتى فترة الغزو العراقي، خيرني العم أبو فيصل بين المغادرة والبقاء فقلت له: كل ما يحصل لكم يحصل لي ولأولادي، وخلال فترة الاحتلال العراقي الغاشم كان يصرف لي راتب وأكرر قولي (لا أقل) لم أخرج من الكويت مادمت أنت موجودا، خلال هذه الفترة كنت أتواجد في ديوانه كل يوم بالفيحاء، كان يقدم وجبة الغداء للرواد، ودائما ضيافته ثمرها عظيم وجسيم.
أضاف: بعد التحرير فتحت المكتب وعملت، ومازلت أعمل مع هذه الأسرة الكريمة، وإبنه مديرنا الحالي ويدعى «باسل» كان عمره «6 سنوات» عندما عملت معهم، والحمد لله بدأت معهم من 45 دينارا ثم 60، و70، ولله الشكر على هذه النعم من الله ومنهم، وهذه الصفات موجودة في أهل الكويت الذين قدموا ومازالوا يقدمون هم الرفقاء، وإذا وضعت الرفق على شيء زانه، هم يحبون الخير كله، ولم يجدوا أفضل من غيرهم التواضع منهم، فلذلك رفعهم الله والزهد والتوكل على الله، و«التواضع أصل كل شرف نفيس ومرتبة رفيعة» كل هذه الصفات تجدها عند الأسر ودواوينها من أيام الغوص والسفر والتجارة، كانت القناعة ملكة للنفس، وبالرغم من السعي والتعب وسفر البحار والمحيطات، ولكن قناعته ما حصل عليه أو يكفيه، وكان يردد وكما سمعت من الآخرين: «من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس».
أسواقنا تراثنا
قال أبو جورج: أسواق الكويت القديمة كانت سياحية وتاريخية مغطية بأسقف من صفائح الحديد ومن خشب المربع، تجددت على حسب الشكل القديم كسوق الخضار واللحم والسلاح والغربللي والواقف وسكة بن دعيج، أسواق مازال فيها من عبق طيب، وكنا نتجول فيها، تذكرنا بتاريخ الآباء والأجداد، تجد فيها التراث الذي يربط بالماضي، كم كنت أتمنى أن تبقى مع الصيانة بدلا من «الهدام والتجديد»، وهناك سوق بضاعته عندما تدخله تجد المتعة والراحة تدخل في نفسك وتدل على إسم السوق، الأسواق المشهورة: سوق الصرافين وإبن دعيج، والزل والمقاصيص والجت والغربللي والجنط (الحقائب) وسوق الدهن والتمر، وأيام البرد يكتظ الناس في سوق الحلوى، وسوق السلاح للبيع والتصليح، وشارع الجديد الذي لم نكن نفارقه من معالم التراث والتاريخ والسياحة متعة المطاعم المتنوعة والمكسرات والأجهزة المتنوعة يؤديك الشارع إلى ساحة الصفاة وسوق الخضرة والغربللي والصفافير، وإلى شارع السيف (الفرضة)، وسوق المعجل الذي أسسه المرحوم عبدالرحمن المعجل، وسوق البنات، وإلى الدهلة موقع حديقة البلدية وعمارات جوهرة الخليج التي تهدمت منذ فترة قريبة، والمطعم الذي مازال طعم اللحم أشمه، تبين لنا بعد ذلك إنه لحم «بعارين» الجمل، وأنا الوحيد بين رواده ألبس بنطلون وقميص، وأكثر الرواد كانوا من البادية (الصحراء).
أضاف: أسواق الكويت تراثية تجدها في منطقة واحدة تتفرع من الشارع الجديد خاصة سوق الحلوى يزداد الطلب والتواجد في هذا السوق لاسيما على الحلوى المسقطية وفي فصل الشتاء، والرهش والزلابية والدرابيل والبقصم، كلها مصنوعة محليا وطازجة، وأكثرها تصنع في البيوت، وعندما تتجول بين الأسواق تجد ما طاب ولذ من المكسرات المتنوعة مثل: حب كرع (اليقطين)، الذي يقال إنه لطرد الدود ولمعالجة الأرق، ومن المكسرات سبال (فول سوداني) وعنجكك والبيذان (اللوز بقشرته الصلبة المنقرة)، وحب شمسي.. الخ.
طرائف
قال أبو جورج: موقف لا أنساه كنا ننام على سطح منزل في الحي الشرقي بالقرب من دوار البركة نفس موقع مبنى شؤون القصر، في الليلة الثانية وجدنا فرش النوم في السكة، ذهبنا للمخفر نشتكي، عرفنا أن صاحب البيت هو الذي أتلف الفرش ورماها في الخارج، وتبين أنه هو الضابط الذي جئنا نشتكي عنده صاحب المنزل، قلنا له شكرا جئنا للسلام عليك فقط.
من الطرائف كنا نسكن في منطقة حولي بالقرب من سينما الأندلس، طلبنا من صاحب سيارة الأجرة أن ينقلنا إلى حولي قال لنا: لا يجوز وحرام أن أوصلك إلى السينما لأن دخول الدار لمشاهدة الأفلام حرام.. حرام، وأنا لا أريد فلوس الحرام. ومن الطرائف اشترى أحد الزبائن أصباغا من عندنا ألوانها حمراء، وبعد فترة دعاني لزيارة بيته فوجدت أن أول البيت إلى نهايته، الغرف والأسقف والممرات كلها باللون نفسه، كان المنظر مرعبا، قلت له أن الكويتيين يحبون اللون البيج والزيتي الفاتح والأبيض ومازالوا على هذه الألوان.
الصدق والصداقة
تحدثت أبو جورج عن الديوانية الكويتية وجدت خصيصا لجلوس وتجمع الرجال، وهي ناد ومجلس ومجتمع صغير يتداولون الجلساء مختلف شؤون حياتهم.
قال: الديوانية الكويتية الحوار فيها يأخذ طابع الصدق والصداقة، وحتى غير المتعلم يتخرج منها أحيانا في فهم وثقافة وأخبار المجتمع من الناحية الاقتصادية والسياسية وأخبار المجتمع نفسه، ويسمع الحوارات وتتبلور أفكار المتواجد، وكبار السن هم يفيدون الصغار، وينقلون إلى بيوتهم ما دار لنقل الوعي.
أضاف: أنا قريب جدا من ديوان العم فهد المعجل (أبو فيصل)، وكما سمعت أيضا في أغلب الدواوين، أن أحاديثهم تدلك إلى الخوف من الله تعالى وهو أفضل الفضائل النفسانية، وكنت أسمع في الديوانية لا سعادة كسعادة لقاء الله والقرب منه، ولم نجد في الديوانية الكراهية والتفرقة، وكنا ندنوا من صاحب الحديث، الديوانية فيها الحب والشرف والذكر، وتجد فيها أشرف الصفات المُرضية (الصدق)، ولا ينقل الحديث إلا بعد أن نتأكد من القائل، هؤلاء الناس هم المقبولون في الدواوين، ومنهم الصامت المستمع الجيد، وكما قالوا: من صمت نجا، ومنهم لا يكثر الكلام، وبعضهم شيمتهم الصراحة والنصيحة، وصاحب الديوانية يده مبسوطة يقدم الطعام في كل المناسبات وسماع إجابته للفقير قبل الغني ويكرم إخوانه، ويظهر الجميل، والديوانية يخرج منها وتنبت الجود والكرم و العطاء، ومن الديوانية خرجت مشاريع في سبيل الله تعالى كصالات للأفراح ومركز غسل الكلى في الشويخ، وفي الخالدية مركز لأطفال الداون، مساعدات قدمت لوجه الله، وإفطار رمضان المبارك كان لسبعين إلى ثمانين صائما، والكويتيون من رزق الله تعالى وتواجدهم في أماكن الخير واصلوا الفضائل إلى الخير والسعادة الحقة والأخلاق الطيبة، والديوانية الكويتية رابطة المحبة وعلاقة المودة بين الناس خاصة روادها، وتهذيب للأخلاق لما تسمعه من الكبار، والديوانية بأصحابها وروادها من طرق اكتساب حسن الخلق.ش
لا أنسى
تحدث أبو جورج عن كلمات لم ينسها ويحفظها، وتخرج منه أحيانا عفوية، خاصة خارج الكويت يقولون «أنت كويتي»! وأتذكر منها: ميخالف ــ كفو والله ــ على الماشي ــ خربوطة ــ شوط.. شوط ــ كوس (هواء من الجنوب) ــ كَبْل الظهر ــ عكاس ــ رنْك (صبغ).
وقال: لا أنسى الكرة الكويتية التي وصلت كأس العالم، ولا أنسى هدف جاسم يعقوب على الفريق البرازيلي، ولا أنسى بطولات كأس الخليج، وفوز الكويت فيها، خصوصاً البطولة الأولى والثانية والثالثة والرابعة.. إلخ.
وقال: لا أنسى سنة 1960 إصدار أول عملة كويتية لتحل محل الروبية الهندية، وإنشاء بنك الكويت المركزي ليحل محل مجلس النقد الكويتي، وقد بدأ العمل بالبنك عام 1969، ولا أنسى الأسواق المسقوفة لحماية المتسوقين من الظروف الجوية، وكانت أسقفها من الجنادل والمربع وصفائح الحديد.
أمثال قديمة
أمثال قديمة يعرفون معانيها ويهتدون بها، وهي مختصرة منها: اللي ما يطيع يضيع.
ــــ اللي ماله أول ماله تالي.
ــــ اللي ما يعرفك ما يثمنك.
ــــ الميت ما تضره الطعنة.
ــــ من بغاها تلقاها.
ــــ كل ضيق وبعده فرج.
ــــ العين جوعانة والبطن شبعانة.
ــــ الدنيا ما دامت لأحد.
ــــ حلاوة البيع جملة.
ــــ ملح وذاب.
ــــ يد وحدة ما تصفق.
ــــ الدّين عمى العين.
ــــ الشيب قبل العيب.