الكتاب الصوتي.. عودة إلى زمن جداتنا الحكاءات
مَنْ منّا لا يحن إلى حكايات الأمهات والجدات؟ أن يعود طفلا يفرك عينيه قبل أن يغلبه الناس، وهو ينصت إلى الصوت الهادئ الرتيب، الذي يرسم عالما من الخيال والحيوية والمغامرة؟ جاءت القراءة في الكتب ومعها فعل العزلة. ينطوي أحدنا في ركن مستغرقاً وحده في حضن الكلمات الصامتة، التي يترجمها إلى صمت أعمق، وأفكار لا يشاركه إياها أحد.
صدفة تجر الواحد إلى عالم «ساوند كلاود» أو «يوتيوب» على «الإنترنت»، ليعثر على قراءات صوتية لما يسمى بـ«الكتاب الصوتي»، أو «الكتاب المسموع»، فيستعيد هذه الروح القديمة للسماع، وترك النفس للمؤانسة بروايات وأشعار، بل بكتب في التاريخ والسياسة وغيرهما.
ما يلاحظ على المحتوى العربي للكتاب الصوتي هو ما يلاحظ بالمثل على الكتاب الإلكتروني من محدودية، مقابل الوفرة في لغات أخرى. والمحتوى الأكثر غزارة «نسبيا» يتمثل في المؤلفات والكتب الدينية، إما لدعاة معاصرين، أو لبعض كتب التراث، والغريب أن يجتمع ذلك وكتب التنمية البشرية، وهي المادة الأكثر توفرا في عصر يحض على النجاح الشخصي، ويعزل قضية النجاح عن أي قيمة أخرى، وأي إشكال اجتماعي أو سياسي، ليحول النجاح إلى مباراة: أنت في مواجهة الآخرين.
من هنا وهناك
صدفة لطيفة أن تعثر على أحد مؤلفات غسان كنفاني، وروايتين فقط لنجيب محفوظ «خان الخليلي» و«أولاد حارتنا»، الكتاب الإشكالي الذي صودر ردحا من الزمن. أحياناً تعثر على أجزاء غير كاملة من رواية، كما هي الحال مع رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي، بينما تعثر له على النص الكامل لـ«حلم رجل مضحك»، أو «الإخوة كرامازوف»، هنا أيضا القراءة الكاملة لـ«مائة عام من العزلة» لغارثيا ماركيز، ولرواية جورج أورويل الشهيرة «1984»، ونتف أخرى من أعمال غوغول، وأنطون تشيكوف، وتولستوي. لكنك أيضا قد تعثر على «الأمير» لميكيافيللي، أو «قصص الحمقى» لابن الجوزي أو «مقدمة ابن خلدون» كاملة.
اجتهادات فردية
من اللافت للنظر ما يكاد يكون انعداما للجهود المؤسسية، سواء أكانت تابعة للدولة، أو للمؤسسات الخاصة، عن هذا المجال. فالأمر متروك في الغالب لاجتهادات أشخاص محبين للثقافة أو الأدب، قاموا بتحمل مشقة قراءة ساعات طويلة، وأودعوها على أحد مواقع الانترنت. من الطبيعي أن يلتبس بهذا الجهد الشخصي اجتهاد من جهة، وتقصير من جهة أخرى، بسبب عدم الاختصاص. فقارئة «حلم رجل مضحك» يتمتع تسجيلها بروح حية، تجهد في التأثير من خلال الأداء الصوتي، المصاحب بموسيقى حالمة، غير أن أخطاءها، التي لا تغتفر بحق اللغة، نطقا وإعرابا قد تزعج المستمع، على الأقل ذلك المستمع الذي يحرص على سلامة المخرج ودقة الضبط. ولا يكاد يخلو تسجيل آخر من خطأ لغوي، ربما لطول فترة القراءة، وضعف إمكانات التسجيل والمونتاج، الذي يسمح بإصلاح الفقرات موضع الخطأ.
شكوى في غير موضعها
غياب المؤسسات عن محتوى الكتاب الصوتي، يقابله بالمثل غيابها عن الكتاب الرقمي، (ما عدا ما توفر من سلسلة عالم المعرفة واعداد مجلة العربي) مع الارتفاع المرهق في أسعاره. ومنذ سنوات تشكو دور النشر من القرصنة، التي تقوم بها مواقع عديدة، تقوم بتحميل الكتب على صفحاتها بصيغ «بي دي إف»، متجاوزة بالطبع حقوق الملكية الفكرية. لكن لم لا تنهض المؤسسات المعنية بشراء حقوق الطبع لبعض المؤلفات، وتحويلها إلى صيغ إلكترونية أو صوتية إذا ما كانت تهدف، وفق المزاعم المتكررة، إلى تشجيع القراءة، مع عدم إغفال حقوق المؤلف والناشر، وبالطبع، حق القارئ والمستمع العربي في الحصول على الكتاب بصيغه المتعددة؟
إن أهمية الكتاب الصوتي، مع غياب التقليد القديم له، المتمثل في الجدات والأمهات الحكاءات، هو أنه يوفر للقراء من الأطفال خصوصا فرصة للتعامل مع الكتاب ومع الآداب العربية والعالمية الرفيعة، تتجاوز العقبة الشائعة والدعوى المتكررة أننا بإزاء جيل قد هجر فعل القراءة. وللكتاب المسموع، إن إعد بشكل جيد، وروعي فيه حسن الإلقاء وسلامة الضبط، فوائد أخرى هي انتقال السليقة اللغوية الصحية إلى الطفل بيسر وسهولة، وبعيدا عن الطرق المدرسية العقيمة في التلقين وحفظ القواعد النظرية.
ثقافة لا تموت
ما تنبهنا إليه تلك الاجتهادات الخاصة من محبي الكتاب والثقافة بعامة، الذين اقتنصوا من أوقاتهم ساعات ليقرأوا لنا ويؤنسونا بصحبة الكتاب من دون جهد منا، إلا الاستلقاء والإنصات، كما لو في حلم، أن كثيرا من ادعاءات «المتخصصين» حول زمان الكتاب الذي ولى، وحول «الهجر» الذي تعاني منه الثقافة مع أجيال جديدة، ليست صحيحة على الإطلاق، بل يدل على ضيق أفق وجهل بوسائط الثقافة، تجاوزته هذه الأجيال من دون إرشاد من أحد. الموت إذلاً ليس موت الكتاب، بل موت من تصوروا أن للكلمة حاملا واحدا ووحيدا، وتصوروا للثقافة قالبا، بينما نهرها يكبر ويتفرع بعيدا عن أعينهم الكسولة.