الفردية العربية بين الصعلكة والأحزان والتمزّق

ضمن سلسلة الندوات والمحاضرات التي نظمها مؤخراً المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت، قدّم الروائي والكاتب محمد أبي سمرا مداخلة حول النزعة الفردية وتجاربها في الحياة الاجتماعية والثقافية العربية الحديثة والمعاصرة، فرأى أنها قد تكون وليدة تصدع وانقطاع وقطيعة أصابت بنى الجماعات والمنظمات الأهلية والحرفية والمهنية والبلدانية والإثنية والأنساب والمراتب الاجتماعية التقليدية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، وبالتزامن مع الاحتكاك بالحضارة والثقافة الغربيتين.
واعتبر أبي سمرا أن العسر والتسلّخ والإحباط والمراوحة والقصور والصعلكة من السمات الأساسية لولادة النزوع الى الفردانية العربية. أما الدراسات والأبحاث العربية التي تناولت ولادة الشخصية والفردانية تناولاً استقصائياً ميدانياً أو حقلياً قليلة جدّاً. منها كتاب للباحث المصري الراحل ناجي نجيب: «كتاب الأحزان ــــ فصول في التاريخ النفسي والوجداني والاجتماعي للفئات المتوسطة العربية».
الذاتية الحزينة
لقد طبعت الأحزان ولادة التعبير الشخصي عن الذات والذاتية في كثرة من الكتابات الأدبية العربية الحديثة أو النهضوية: مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 ــــ 1924)، جبران خليل جبران (1883 ــــ 1931)، علي محمود طه (1902 ــــ 1949)، محمد عبدالحليم عبدالله (1913 ــــ 1970)، وصلاح عبدالصبور (1931 ــــ 1981). وفي تتبعه ظاهرة الأحزان الأدبية وشيوعها وتأثيرها البالغ في وجدان قرّاء العربية منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى خمسينات القرن العشرين، يعتبر نجيب أن ما ترجمه المنفلوطي من روايات عن الفرنسية بتصرّف كبير، وما كتبه بالعربية، يمثل نموذج هذه الظاهرة الأسبق في مصر، في حين يمثّل جبران نموذجها المماثل في الأدب المهجري وفي بلاد الشام.
المنفلوطية والجبرانية
فالمنفلوطي وجبران تطبع الذاتية والشخصانية لغتهما وعبارتهما اللتين تلهجان بالعواطف وإثارة المشاعر والشجون.
وتقوم المنفلوطية والجبرانية على «الشجن والتشاجي، والتدفق والترفق العاطفيين، والحنو الذائب المتأنّق في وصف الحزن والحرمان». وتكمن أهمية هذا المذهب في الكتابة في ربطه الأدب والتأدب بالذات والذاتية والمشاعر والرغبات والصدق في التعبير الشخصي. وهذه كلها يطبعها حزن طروب وسعيد، يعكس مطلباً عاماً اجتماعياً ونفسياً وتعبيرياً. ألا وهو رغبة الكاتب وقرّائه في الشعور بذاتهم الشخصية وحريتهم واستقلالهم التي كانت تحاصرها وتلجمها وتكبتها الحياة الاجتماعية العربية التقليدية.
وهنا يلحّ السؤال التالي: لماذا امتزج النزوع إلى الذاتية والفردية والرغبات الشخصية بذلك الحزن الشجي الطروب والسعيد في الثقافة الأدبية العربية المعاصرة؟ هل لأن هذه الذاتية والفردية والشخصانية كانت مفقودة وغائبة وغير موجودة أصلاً في العالم الاجتماعي وفضاءاته وعلاقاته وتجاربه ومبادلاته وقيمه ووسائله التعبيرية؟
عانس النداء البعيد
من الأمثلة على تلك الفردية المتعثرة شخصية العانس التي روى قصتها أنيس فريحة (1903 ــــ 1993) في كتابه «اسمع يا رضا» (1956). والعانس ابنة أمها، تقول الكناية عن العانسات بأسماء أمهاتهن. أما مريم فكُنِّيت باسم أبيها؛ لأنه سبب عنوستها. فوالدها فارس، بعدما شغل وظيفة حاجب أو كاتب محكمة في قريته، لُقّب أو هو لَقّب نفسه بالأفندي، كناية عن التشاوف الذي تمنحه الوظيفة الرسمية المتواضعة لمن يتحدرون من نسب متواضع أو مرتبة اجتماعية متواضعة. تشاوف فارس وتوقه إلى الارتقاء اجتماعياً لتأسيس نسب، حملاه على تعليم ابنته مريم في مدرسة داخلية على الساحل، حيث راحت في انفرادها تسمع من البعيد نداءً غريباً غامضاً، أخذ يباعد بينها وبين عالم القرية. أما بعد تركها المدرسة وعودتها إلى القرية صبية في سن الزواج، ممتلئة النفس والمخيلة بتمايزها، فعافت نفس مريم عالم القرية الرتيب، وسكنتها صور العالم البعيد ونداءاته البعيدة على الساحل، فألهبت مخيلتها الفردية وشطرت ذاتها شطرين متنابذين: ذات متخيلة تجمّدت في الماضي والذكريات، وذات في القرية التي تنفر من عالمها وعلاقاتها التقليدية المتجمدة، حيث يتكرر في وعيها الحوار الذاتي الآتي: «في القرية الزواج قبر. رشيد ابن خالي إذا تزوجته أُصبح مثل امرأة خالي أم رشيد. ابن مخوّل لا صنعة ولا علم. المعلم أمين ثقيل ومتصنع.. الدير ولا المعلم أمين. أحب الزواج من رجل متعلم أو تاجر». لكن مريم لم تتزوج ولا ذهبت إلى الدير. وعاشت منفردة، غاضبة وساخطة، في عزلتها وانقطاعها وعنوستها، وهذا ما تركها منبوذة مستبعدة على هامش الزمن والاجتماع، داخل شرنقة وحدتها الفردية الموحشة.
جيل القطيعة
ومن الأمثلة الأحدث عن ذلك التوق إلى الولادة الفردية العسيرة والعسراء، تجربة جيل طلابي وشبابي في انقطاعه عن الاجتماع الأهلي وثقافته ومراتبه الريفية والمدينية، وفي انضوائه في حلقات كانت تديرها منظمات حزبية يسارية في عشيات حروب لبنان البادئة عام 1975. فأبناء ذلك الجيل المنضوون في تلك الحلقات كانوا على شيء من يُتم اجتماعي وثقافي، لابس نشأتهم ككائنات منقطعة وبلا لغة قبل ذلك الانضواء الذي لمّ شملهم في بوتقة أو رابطة صناعية جديدة ملأت في نفوسهم وحياتهم فراغاً أو فجوات أو شعوراً غامضاً بالفقدان.