التحالفات العسكرية أساس تحقيق الانتصار
يعبر الرئيس دونالد ترامب عن شعور بالحسرة عندما يتعلق الأمر بقضية الحرب، حيث يرى أن أفضل أيام أميركا قد مضت في هذا الصدد. وقال «إننا لا ننتصر البتة، كما أننا لا نحارب لكي ننتصر».
وقد جاء تصريحه هذا في اليوم ذاته الذي أعلن فيه أن الميزانية الجديدة سوف تشمل زيادة تصل إلى 10 في المئة في الإنفاق العسكري. بيد أن هنالك مثالا للانتصار الأميركي، وقد حدث ذلك في الشرق الأوسط، وأن على الرئيس الأميركي الجديد، وهو كذلك القائد العام، دراسة هذا الأمر لأنه سيقدم له درساً يتعارض تماماً وأسلوبه القائم على استعراض العضلات والتهديد.
هذا الدرس مقدم من بطل حرب فعلي، الذي وصف وياللعجب، بانه شخص ضعيف الشخصية عندما تولى إدارة أمور البلاد من المكتب البيضاوي.
ففي الثاني من ديسمبر عام 1944 تم اسقاط طائرة الملازم جورج بوش من طراز افينغر بينما كانت في مهمة لقصف تششي جيما الجزيرة التي كان يسيطر عليها اليابانيون، وأثناء انحراف الطائرة نحو البحر، امر بوش مساعديه المسؤولين عن المدفع وعملية القصف مغادرة الطائرة، وصعد فوق جناحها وهبط بالمظلة إلى البحر وظل طافياً فوق قارب الانقاذ، وقد اعترف بانه شعر بالخوف من إمكان عثور اليابانيين عليه، وتسليمه لقائد تششي جيما، الذي تم اعدامه بعد انتهاء الحرب، لأنه كان يقتل الطيارين الأميركيين الأسرى، ويأكل أكبادهم، وقال بوش في وقت لاحق مازحاً إنه كان سوف يشكل وجبة متواضعة، لأنه كان «نحيفاً للغاية».
شكوك تاتشر
وكان التحليق فوق نيران العدو يتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة، غير إن وصفه بالشجاعة لم يستمر، فبعد مرور أربعين عاما من ذلك وفي اكتوبر عام 1987 وصف بوش بانه «شخص ضعيف الشخصية» في مجلة نيوزويك التي تساءلت اذا ما كان «قوياً بما فيه الكفاية» لكي يخلف رونالد ريغان في منصب الرئاسة، بل أن رئيسة وزراء بريطانيا حينها مارغريت تاتشر كانت تساورها الشكوك حوله، فعندما احتل صدام حسين الكويت في الأول من أغسطس عام 1990، وبدا بوش متردداً، خاطبته تاتشر قائلة «لا تتردد يا جورج»، وفي واقع الأمر فإن بوش لم يكن متردداً.
ففي الأسابيع التي أعقبت اعتداء صدام شكلّ الرئيس بوش تحالفاً دولياً لمواجهته، ونشر مئات الألوف من القوات الأميركية، وقوات التحالف للدفاع عن المملكة العربية السعودية، وخاض حرباً برية استمرت مئة ساعة سبقتها حرب جوية استمرت 900 ساعة. اطلق عليها اسم عملية «عاصفة الصحراء» التي ادت إلى طرد جيش صدام من الكويت، وقد وصف بوش ذلك بقوله «لقد وضعنا الهدف، وشكلنا التحالف، وأدينا العمل الدبلوماسي، ومنحنا السلام فرصة، وخضنا القتال، وحددنا المهمة القتالية وقاتلنا وانتصرنا»، وقد كانت الحرب التي وصفها صدام بـ«أم المعارك» تمثل «أم الانتصارات» آخر انتصار عسكري واضح وحاسم في التاريخ الأميركي.
وبالنسبة للرئيس بوش فان الائتلاف الذي شكله من خلال اتصالات هاتفية ولقاءات شخصية لا تنتهي العامل الأساسي لتحقيق النصر، فقد انضمت مجموعة مختلفة مكونة من 39 بلداً إلى الجهد العسكري الذي قادته أميركا، وكان من بينها بريطانيا وكندا، واستراليا إلى جانب كل من سوريا ومصر وبنغلادش، وهندوراس، وقد أسهمت هذه الدول بالقوات والأسلحة والخبرة وحوالي 42 مليار دولار من كلفة الحرب التي بلغت 62 مليار دولار، وقد كان في مقدور أميركا من دون شك القيام بذلك وحدها، وتحقيق النصر غير ان التحالف أضفى مصداقية للحملة، إذ لم تكن الحرب فيما بين أميركا وصدام، بل صدام ضد العالم.
سياسة خارجية عبر تويتر
وعليه فان من الصعب تصور تحقيق دونالد ترامب مثل ذلك النجاح، وهو الذي يصف الأمم المتحدة بانها «منتدى لتبادل الأحاديث والهذر» كما يستخف باتفاقيات حفظ السلام، ويدير السياسية الخارجية عبر تويتر، ويغلق الهاتف في وجه رؤساء الوزارات، ويعتقد ان حلف الناتو «عفى عليه الزمن»، وإذا ما اقدمت إيران وروسيا وكوريا الشمالية على اختبار الولايات المتحدة، كما فعل صدام، فان أميركا سوف تطالب بدعم دولي وتتوقع حدوث ذلك، ولكن من هي الجهة التي سيتصل بها ترامب أولاً، هل هي استراليا؟ وهناك أيضاً تقييم الرضا عن نتائج الحرب التي جاءت جيدة جداً، حيث ارتفعت كثيراً شعبية بوش وأصبح قائد التحالف الجنرال نورمان شوارزكوف بطلاً قومياً، وان فكرة ان أميركا كانت في حالة تراجع وانسحاب وانها تعاني من «عقدة فيتنام» قد انتهت إلى غير رجعة، وكان بوش يرى ان التحاللف قد اثبت انه في مقدور الولايات المتحدة قيادة العالم طالما التزمت بوعدها، وقد فعل بوش ذلك حيث حررت أميركا الكويت، ولكن توقف عندها.
وفي واقع الأمر فانه على الرغم من ادانة الرئيس بوش لاصدار أوامر متسرعة لوقف الأعمال الحربية، فإنه ظل يرفض تلك الانتقادات، فقد كانت الأولوية بالنسبة له ابقاء التحالف متماسكاً كما شكله، والالتزام بالاجماع الدولي الذي اصدر قرارات الأمم المتحدة التي أمرت بطرد صدام من الكويت، وليس أكثر من ذلك، وعليه فان إدارة بوش رأت ان عاصفة الصحراء كنموذج للكيفية التي يمكن للولايات المتحدة التعامل بها مع عالم ما بعد الحرب الباردة.
فالولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى الوحيدة تخلت عن التصرّف الانفرادي لمصلحة «نظام عالمي جديد» يقوم على بناء اجماع دولي بدعم من المؤسسات الدولية. وفي ذلك الوقت فإن مبدأ بوش ذلك لم يجد ترحيبا شاملا. فمن يجري وصفهم الآن بـ«الليبراليين الجدد» انتقدوا مفهوم «النظام العالمي الجديد» ووصفوه بأنه تعبير غير ذي معنى يؤدي إلى إعاقة القوة الأميركية. وقالوا إن درس «عاصفة الصحراء» لم يكن يعني أن العمل العسكري حقق النجاح، بل أن قوة أميركا العسكرية التي لا منافس لها يمكن استخدامها في تشكيل صورة العالم بما يناسب ما تريده الولايات المتحدة. ويمكن الآن عند إعادة النظر تبدو أحداث 11 سبتمبر بأنها نقطة تحوّل. فعاصفة الصحراء أوقفت صدام ولكنها لم توقف أسامة بن لادن. وبات المحافظون الجدد يقفون في مواجهة الليبراليين الجدد، وألقي بـ«النظام العالمي الجديد» في مزبلة التاريخ.
الاستثمار في الأمن
ويرغب دونالد ترامب ان يبقيه هناك، حيث يصف بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا واستراليا مستخدما اللغة ذاتها التي كان يستخدمها المحافظون في السابق في وصف الأسر التي تعتمد في عيشها على إعانات الرعاية الاجتماعية. كما يرى ترامب أن التحالفات على النمط الذي تبناه بوش يؤدي إلى ترسيخ الكسل الدولي، حيث تقدم أميركا المال إلى دول لا تهتم حتى بشكرها على ذلك. وهو يقول إننا لا نبني أمنا جماعيا، بل إنما ندعم جيوش دول أخرى. وبالنسبة لبوش فإن بناء تحالف دولي يعتبر نوعا من الاستثمار في الأمن، وبالنسبة لترامب تعد عملية خاسرة وان على كل دولة الاعتماد على نفسها، ويكون النصر لمصلحة القوة العسكرية الأكبر. كما يرى ترامب إن أقوى مؤسسة عسكرية في العالم يجب ألا تسعى للحصول علي إذن من «ناد يجتمع فيه أناس معا لتبادل الحديث والاستمتاع بوقتهم»، وأنه يجب كما قال سفيره لدى الأمم المتحدة تقييم الوضع ومعرفة من «يحمي ظهورنا»، كما حذّر من لا يفعلون ذلك بأننا «نسجل أسماءهم».
غير أنه بينما أثارت هذه التصريحات قلق مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية، فإنها ليست جديدة. فجملة إدارة ترامب المعادية للأمم المتحدة كان قد رددها الرئيس بوش الابن الذي قبل على مضض أن يقدم وزير الخارجية حينها كولن باول أسباب غزو العراق في الأمم المتحدة. فالفرق فيما بين بوش الأب والابن هو أن الأب متحمس للعمل الجماعي، بينما يؤمن الابن بالتوجه الأحادي. ويعد انتقاد ترامب لحلف الناتو، ووصفه بأن «الزمن عفى عليه»، إنما يعتبر هجوما على دعامة العمل الأميركي الجماعي، بينما يبدو دعمه لشعار «أميركا أولا» بأنه يشبه اعتقاده في الوقوف من أجل أميركا فقط، بأنه يشبه اعتقاده في أن الولايات المتحدة في مقدورها استخدام أي وسائل متاحة لها من دون إعطاء أي اعتبار للقانون الدولي. إلا أنه قد يصعب تجاهل ما يقوله التاريخ إن آخر انتصار أميركي عظيم حدث تحت حكم رئيس «متردّد» الذي قال إن عظمة أميركا لم تأت عندما عملت أميركا لوحدها، بل عندما تبنت العمل الجماعي.
■ بوليتيكو ■